أرشيف حديث القصيد - فطنة

السفر والقصيد في قصيدة “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات ؟” للشاعر نصر سامي/ د. فطنة بن ضالي

استحضرت أعماقها لتفر نحو الليل،

ليل المفردات.

رأيتها تنسل نحو الظل،

ظل شجيرة الزيتون خائفة كعادتها معي،

وسمعت صوتا أو صدى صوت يردده الطريق! قلت في قلق.

“أما من غيمة تأتي هنا لتضمني أو فرحة بصديقة تأتي لتنسيني الردى؟”.

ولم أجد وقتا لأحمل زهرة جبلية لحبيبة مخفية خلف البروق!

(…)، ورأيت خلف السور سيدة تنادي زوجها.

“انظر”.

رأيت ممالك الطير المحلق في المدى ترمي مباهجها علي.

رأيت أشجارا تزرر بالزهور قماشة الأدغال!.

“أما من نجمة تقتادني لأرى البعيد بضفتيه معا؟

أما من لحظة فيضية تمتد كي أتأمل الأعماق وحدي؟”

ولم يتشرب الضوء العميق مع الدنى أسرار روحي كلها،

فحضنت جسما من بروق تحت جسمي، وانتظرت…

لم تمكني القصيدة من حياة غير ما أحياه فيها!

مكنتني من سرير غامض في البرق ينأى.

مكنتني من تواريخ الفجائع في الأساطير القديمة والجديدة،

(…) .قلت في نفسي .

وهممت بالجسد الممدد قرب جسمي …

وانتظرت إياب جسمي بالفصول جميعها.

ولم تمكني القصيدة من تراب أو شجيرات لأغرس فكرتي في الظل تحت عرائش العناب أو قرب الشتول.

(…) . بدأت أفرح بالقصيدة كي أرى بلدي الذي يحيا معي،

وبدأت أفرح بالقصيدة كي أرى ولدي الذي لم يأت بعد،

بدأت أفرح بالقصيدة كي أرى…

ناديتها وأنا أمزق ثوبها كي ألمس الأطراف “صوتي قطرة من ماء هذا الكون من آلامه من نوره وظلامه،

أهي الأخيرة!”.

(…). “ألف برق حط في جسدي المعبأ بالنجوم،

ألف برق كلها مدت طريقا نحو روحي،

ألف برق كلها حبلى وملأى بالغيوم،

ألف برق كلها تجتاح روحي كي تفجر نفسها في داخلي،

من شوقها،

وسط الأقاصي والتخوم”. “سوف أبدأ من جديد رحلة التطواف حول قصيدتي،

سأغيب كي تتمكن الأشجار من إيراقها،

وسوف أعطي للنهار الضوء كي تنسل من أعطافه الأبيات فاتحة يديها للشموس،

وسوف أستسقي الغيوم لكي تبلل فضتي الملقاة في جسد الدجى،

وسوف تحيا في داخلي الغابات في عـزلاتها!”.

كم قلت للجسد الممدد قرب روح لم يحن أوانها.

(…) “هذا كل ما تعطيه لي الكلمات في ترحالها؟”.

غمغمت في سري، فلم يأت الجواب ولا الصدى.

وغرقت في جسدي أفكر منصتا لحقيقتي،

وبدأت مثل شجيرة العناب قرب البئر أورق مفعما بطفولتي،

وبدأت أقطف ثمر عمري كله نورا..

إلى أن طاف بي ليل الخيانات العميق وهزني!

“كم من طريق كي نمر إلى الحقيقة نفسها؟

“. “جسدي أنا درب الحقائق كلها”.

(…) . ولم أحب الموت كي تساقط القتلى على بابي.

وعد بإمكانية الطوفان،

للغمر أمواجي،

وفوق العرش،

فوق الأفق أمواجي،

أدمّر كي أرى رؤياي واضحة،

وأكسر كي أعمّق رؤيتي،

وأطير كي أتسقّط الأخبار تحتي في ظلام الليل…

أرسل الطوفان، تلك مهمتي، وحدي،

وأسكن في الحريق وأنتهي!مثل الغريب قصائدي لم تنته،

(…). مثل الأنبياء أحب أن تمتد في أسطورتي النيران،

أن يمتد في لغتي الرماد،

وأن…

“أهذا كل ما أعطته لي الكلمات في ترحالها؟”.

غمغمت وحدي في الظلام ولم أجد طوفا لأنقذ فكرتي….

(…) فالماء دمر كل شيء هاهنا،

لم تقدر العنقاء أن ترث الرماد ،

ولم يسر أحد على الماء القديم،

فكل شيء ضائع،

(…)خاطبتها وأنا أهم بها مرارا.

“ليس يسكرني سواك،

فصدقيني دائما ثم امنحيني كل أسباب المنى.

أنا ساكن في الوهم،

محمول على خيل اللغات.

ليس لي وطن سوى لغتي التي فجّجت بين ضلوعها،

وملأت مسرحها بذاتي”.

     تظل التجربة الشعرية لكل شاعر وثيقة الصلة بالشاعر نفسه، وبحياته الوجدانية وجدله الداخلي في علاقته بالإبداع من جهة، وبالظروف الموضوعية والتجربة الإنسانية الكونية وتاريخها من جهة أخرى، على اعتبار أن الإنسان وليد التاريخ، ولكل تجربة أسئلتها  المتشابكة و المتعالقة، والتي من الصعب القبض عليها في سهولة، ومما لا شك أن للشاعر نصر سامي تجربة تقوم على الفرادة  الذاتية وتكشف عن تلك الفعالية الإنسانية الكونية في جوانبها المختلفة . وسنقف على بعض جوانبها في قصيدة : “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات؟ “وهي القصيدة السابعة ” من حيث الترتيب في الديوان ، وتشغل حيز الصفحات؛ من 48 إلى 52، يمكننا قراءة القصيدة،  من خلال مقاربة أولا:المعنى والدلالة فيها، وثانيا خصائصها الفنية وثالثا: خصائصها الإيقاعية. 

1- من حيث المعنى  

يذهب الباحث الدكتور عبد العاطي بانوار إلى أن قصيدة النثر” تتصف وتتحدد بعدة صفات وتحديدات، مثل شمولية التأثير، والوحدة، والتركيز، والاختصار، والكثافة، والمجانية، وتثبت هذه الكلمات أن قصيدة النثر عالم مغلق، ومكثف بذاته، وأنها – في الآن ذاته- كتلة مشعة، محملة بعدد لانهائي من الإيحاءات”1. وحيث إن قصيدة “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات ؟” قصيدة نثرية، فالتكثيف والإيحائية فيها  تتجه نحو الذروة لتحقق الوحدة العضوية والتي تنصهر فيها جميع مكونات النص ومجموع علاقاتها من خلال الرؤيا التي عبر بها الشاعر، والمستشفة من الفعل “رأيت” المتكرر في أقواله: (“ورأيت خلف السور سيدة تنادي زوجها”،”رأيت ممالك الطير المحلق بين المدى …”، “رأيت أشجارا تزرر بالزهور قماشة الأدغال!.”، “أما من نجمة تقتادني لأرى البعيد في ضفتيه معا؟”). فإذا كان العنوان عبارة عن سؤال يفتح الأبواب للتأويل بين الحقيقة والاستنكار؛ لأن استعمال الهمزة في الاستفهام يحيل إلى التصور والتصديق ، وقد ينزاح الاستفهام عن معناه الحقيقي فيخرج للاستنكار، فإنه تتناسل عنه أسئلة أخرى تنتظم النص و بنفس الأداة في أغلب الأحيان، مثل قوله ( أما من غيمة تأتي هنا لتضمني أو فرحة بصديقة تأتي لتنسيني الردى؟”، أما من لحظة فيضية كي أتأمل الأعماق وحدي ؟”)، كل هذا تعميق للسؤال الذي يساهم في  تكثيف الدلالة، بجمل إنشائية  تتوالى، ثم يرتد السؤال إلى منبعه وهو السائل ليزيد في  وصف الحال قائلا: ( ولم يتشرب الضوء العميق مع الدنى أسرار روحي كلها، فحضنت جسما من بروق تحت جسمي، وانتظرت…)، إذ يستعمل الشاعر الرابط القوي الواو ليربط الجملة الإنشائية بالخبرية، وكأنها جواب للأسئلة في تركيب يوحي بعمق الرجاء وتمني  الغيمة أو الفرحة أو النجمة أو اللحظة الفيضية بشكل تصاعدي للسمو بالذات من حالة إلى أخرى أسمى، رابطا الجملة الموالية مع سابقتها بالفاء الذي يفيد الترتيب في الحدث. بداية تشي  بالتيه والانتظار عبر عنها الشاعر بجملة فعلية، وهي: (استحضرت أعماقها لتفر نحو الليل، ليل الكلمات ) هي/الأنثى/ القصيدة، الفارة، التي سيعيش معها الشاعر علاقة توتر أحيانا وعلاقة انسجام أخرى، وهي العلاقات المعبر عنها والمكونة لتفاصيل النص مابين البداية والنهاية، و سيظل تواقا إليها،  يدخل معها في حوار، يقول في النهاية: (“خاطبتها وأنا أهم بها مرارا” ويزيد :”ليس يسكرني سواك ، فصدقيني دائما ثم امنحيني كل المنى . أنا ساكن في الوهم ، محمول على خيل اللغات. ليس لي وطن سوى لغتي التي فججت بين ضلوعها، وملأت مسرحها بذاتي”). هكذا، فالحوار في القصيدة رابط مهم لأوصال النص وتنويع أساليبه يشكل إيقاعا معنويا. ذلك أن الشاعر نصر سامي  يدخل في حوار  ذي بعدين لا ينفصلان ؛ أولهما داخلي،  يتمثل في قوله :(قلت في نفسي)، و(غمغمت في سري)، وثانيهما بين جسدين : (قلت للجسد ..) (خاطبتها). ثم يقول: (غرقت في جسدي أفكر منصتا لحقيقتي،.. كم طريق كي نمر إلى الحقيقة نفسها؟، جسدي أنا درب الحقائق كلها). الجسد هنا في ترابط عضوي بينه وبين العقل – كما يذهب إلى ذلك ميشيل فوكو- حيث يضع ” الجسد في قلب الاهتمام، ويجعل العقل مجرد وظيفة، فالجسد هو ما يستحق الاهتمام والرصد، حيث يجب أن يعبر بكل حرية وتلقائية، ومن دون موانع أو قيود، لكي يتجلى المكبوت وتظهر الحقائق”2، فقد جعل له الشاعر دروبا وتخوما  مهما تعددت فإنها توصل إلى الحقيقة.

 إن الجسد هو موطن المعنى ومكان دلالته، فهو في الفكر المعاصر “أحد الوسائل الأساسية لتعبير الذات عن تخارجها، إذ إنه عن طريق جسدي أدرك الأشياء”3. ففي الجسد الواحد يكمن التعدد ذلك التعدد الذي يجعل تجاربنا وتجارب الآخر تتجمع وتنظم لتنتمي لفاعل واحد هو الجسد، “بما أن أجسادنا تحيلنا بشكل دائم إلى العالم و الآخرين هي ذاتها جوانب لجسد واحد”4. ويقول الشاعر أيضا: (هممت بالجسد الممدد قرب جسمي… وانتظرت إياب جسمي بالفصول جميعها). فقد جرد  من ذاته الواحدة المتعدد الذي يمتد في الزمان والمكان، والذي عليه أن يدخل في علاقات مع الأشياء والذوات الأخرى، ذلك أن الجسم كما يقر سارتر “ليس شيئا ملحقا بالنفس بل هو بقاء دائم لوجودي والشرط الدائم لإمكانية وعيي باعتباره وعيا للعالم كله. يقول: أنا الجسم والباقي هو العدم والصمت المطبق”5، و بهذا المعنى قال الشاعر: ( غرقت في جسدي أفكر في الجميع وفي “أنا”)،ثم قال : (كم قلت للجسد الممدد قرب روح لم يحن أوانها)، فالشاعر هنا في اللحظة الحياتية ذاتها، والوعي بكل الاحتمالات والإمكانات التي تجسد رؤيته الإبداعية والفنية يحاور ذاته في لحظة الإبداع بكل ما يكتنفها من شعور وإحساسات، ومعاناة فكرية ونفسية، تجعل الجسد “الأنا”،” يستطيع أن يضيء الفضاء عبر دلالات ورسائل، قد تكون ترسانة من الإيماءات والحركات الرمزية، إن لديه لغات متعددة”6. – كما هو الشأن في المسرح – ولكنه هنا ليس إلا سفرا في عوالم اللغة وفي الكتابة.  (ألف برق حط في جسدي المعبإ بالنجوم،(…)، ألف برق كلها تجتاح روحي كي تفجر نفسها داخلي )، إنه وميض الأمل الذي حرك الوجدان وهيأ إمكانية الوجود للقصيدة، فبدأت المعاناة من أجل النظم والاتساق والانسجام بين مكونات الجسد الممكن الوجود وهو القصيدة، من جسد مضيء يستطيع أن يعكس الضوء على الأشياء وعلى القصيدة  وهو جسد الشاعر، (سوف أعطي للنهار الضوء كي تنسل من أعطافه الأبيات فاتحة يدها للشموس، وسوف أستسقي الغيوم كي تبلل فضتي الملقاة في جسد الدجى) إنه الجسد الذي يضيء في وجوده ومنه القصيدة الضوء محاربا عتمة الدجى والعدم. وسيأتي المستقبل،كما عبر: (سوف أبدأ رحلة التطواف حول قصيدتي..)، وبهذا بدأ البحث عن الوجود عن التلاؤم والانسجام في اللانظام وتبعثر الأجزاء، وما يحيل إليه الواقع  بكل أبعاده،في قوله: (لا شيء في الأعماق إلا الليل)، الليل “ليل الكلمات”، إنها رحلة مضنية مع الكلمات، تتغيى التحكم في اللغة وتطويعها من أجل التعبير الفني المولد للمعاني والموحي بالصور الأدبية الجميلة. تلك الرحلة التي  تبدأ  بحالة “الطواف” و”الدوران”،  و”الترحال” وتنتهي بحالة وضوح الرؤيا، (أدمر كي أرى رؤياي واضحة، وأكسر كي أعمق رؤيتي). (بدأت أفرح بالقصيدة…) إنها كما تقول الناقدة ابتسام حمدان : “لحظة الإلهام، حيث تظهر الذكريات والصور والأفكار، بأشكال متعددة مختلفة تتفاعل معطيات النفس الشاعرة بانفعالاتها وتوتراتها لكن الشاعر… يعمل فيها ذوقه الفني ليعيد تشكيلها محققا التلاؤم و الانسجام، مما يضفي على عمله تماسكا كليا، يخلق نوعا من الحركة الإيقاعية المتجاوبة على الصعيدين الشكلي أو المعنوي الإيحائي”7. وهكذا، لقد وظف الشاعر الحوار بشكليه مكونا من مكونات النص في القبض على الدلالة والتعبير عن الحالة النفسية وما يعتريها من مشاعر وتحولات في كل  مرا حل التي تمر منها القصيدة لتصبح كيانا وليدا تام الوجود .

الهوامش

1- عبد العاطي بانوار، تحاور الأنواع الأدبية في الأدب العربي الحديث، أطروحة دكتوراه الدولة، جامعة القاضي عياض،2002-2003 ص134.

2- البيولوجية السياسية بين سلطة المعرفة، ومعرفة السلطة، حسن مصدق، جريدة العرب الدولية، لندن، 26-07-2007.

3- فلسفة الجسد، محمد حيول، الحوار المتمدن، 17-01-2003.

4- المرجع نفسه.

5-  فلسفة الجسد، ميشيلا مارزانو، ترجمة  نبيل أبو صعب، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2011، ص 59.

6-  فلسفة الجسد محمد حيول. م.س.

7- ابتسام حمدان ، الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي ،ط1،دار القلم،حلب، ص111.

 

Read more

         

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

رحلة في رواية رماد الاحلام للكاتب الفنان المرحوم جميل عواد – احمد ابو شاويش

رحلة في رواية رماد الاحلام للكاتب الفنان المرحوم جميل عواد حين تقرأ اي نص عليك أن تعود للسياق التاريخي الذي كتب فيه النص لأهمية فهم النص ودلالاته ولأن كاتب الرواية فنان قضى عمره ما بين الدراما والمسرح والسينما يخيل اليك أن الرواية ستكون ككتابة السيناريو لكنك تكتشف انك في حضرة رواية مختلفة لأكثر من

%d bloggers like this: