الرسالة السابعة عشرة – ثراء الجدي
( رسائل العشق الممنوعة من الصرف)
علمني ..
كيف أبحر بك إلى سدرة المنتهى وكيف أفتح في صدري سماء أخرى حيث لا تتوه البوصلة ولا تغلق الأبواب في وجهِ النداء وكيف أجدف بين أضلاع الصمت دون أن تثقلني خطايا الأسئلة و أنفض عن كاهلي تعب الخطى وأعبر نحو الضفة التي لا يغادرها الضوء، أنا التي أرهقها السير بين الصفا والمروة كلما لاحت لي استراحة، هزأت بي الرمال وسخرت مني الظلال، ونبضت في داخلي فكرة تعثرت برحيلها قبل أن تكتمل . قدماي لم تبارحا الأرض لكن روحي مشقوقة بين المدى والمجهول لأتوسد سراب الطريق وأبحث عن يقين يتسع له هذا التيه.
أيا صوتٱ يتوارى خلف ستائر الغيب دلني على نقطة الضوء، وخذ بيدي قبل أن تبتلعني المسافة فأنا العطشى إلى ضفة اليقين وأنا المعلقة بين الرجاء والخوف
بين السؤال والصدى
لكنني..
أدركت أخيرٱ أن الدرب ليس في الخارج بل في عمق السؤال وأن سدرة المنتهى ليست هناك بل في رجفة النفس حين يضيء بوحٱ، أدركت أنني حين أنسى المدى وأكف عن مطاردة الضوء،
حيث أكون العابر والممر والطريق عندها فقط أعلم بأنني وصلت.
حين وصلت !!
لم يكن هناك باب يفتح، ولا سدرة تتجلى، لم يكن الضوء نافذة على المدى، بل كان في داخلي، نابعٱ كهمس بين الضلوع، كيقين لا يسأل عن الطريق. أدركت أنني لم أكن أبحث عن نقطة وصول، بل عن نقطة انبثاق، حيث لا أحتاج إلى خارطة، ولا إلى علامات ترقيم ترشدني، لأن الرحلة لم تكن إلى هناك، بل إلى هنا. كنت أظن أنني بحاجة ماسة إلى صوت يرشدني، إلى يد تمسك بي، لكنني وجدت أنني حين أسلمت قلبي للتيه، صار التيه ممرٱ، وصرت أنا بوصلتي. لم أعد أخشى المسافة، ولاأستجدي الإجابات، لأن السؤال حين يهدأ، ينطق اليقين.
والآن ؟؟ ماذا بعد اليقين؟
هل ينتهي الدرب حين نصل، أم أن الوصول بداية أخرى؟ هل يولد سؤال جديد كلما انطفأت نار الحيرة؟ أم أن الحيرة نفسها كانت شعلة الطريق؟
أنا .. العابر والممر والطريق .
أنا ..
السؤال الذي صار ضوءٱ،
وأنا .. الطمأنينة التي وجدت نفسها حين توقفت عن البحث .
.أما اليقين ما هو إلا برق يخترق عتمة القلب، لحظة انكشاف لا تثبت ولا تستقر، لأنه ليس وجهة تبلغ، بل شريان لا ينقطع. ليس وصولٱ يقضي إلى سكون، بل ارتحال أعمق في الذات، حيث لا تنطفئ الأسئلة، بل تتحول إلى أنفاس النور، وحيث لا تنتهي الرحلة، بل تذيب الطريق إلى العابر، حتى يغدو العابر هو الدرب، والدرب هو النشوة، والنشوة هي الفناء في نور الحقيقة.
وحينها، لا يعود للبحث معنى، لأن الرؤية لم تكن يومٱ في الأفق، بل في العين التي تبصر، ولم يكن النور هناك، بل في القلب الذي يضيء. حين يتلاشى الطريق، فمن يسير؟
حين لا تعود هناك مسافة، فأين سيكون العابر؟
وحين لا يبقى في الروح عطش، هل يبقى معنى للماء؟ كنت أبحث عن صوت يناديني من خلف الغيب، عن إشارةٍ تقودني، عن نافذةٍ تفتح علي يقين يطوي المسافات، لكنني لم أجد شيئٱ سوى صمت يتسع، وريح تهمس بأن الطريق لم يكن يومٱ أمامي، بل كان في داخلي.فكلما أمعنت في الركض، ابتعدت وكلما هدأت، اقتربت. كأن المسافة لم تكن بيني وبين النور، بل كانت بيني وبين نفسي. فمن أنا ؟؟
إن لم أكن العابر والممر والطريق؟
ومن أكون ؟؟ إن لم أكن السؤال والجواب معٱ ؟
ثم أدركت ..
أنني لا أصل، بل أنسكب.
لا أبحث، بل أضيء.
لا أجدف نحو الضفة،
بل أذوب في الماء
حتى أصبح بحرٱ. وهكذا، حين يتلاشى الطريق، لا يبقى إلا السائر. وحين يسكن السؤال، لا يبقى إلا النور .
عم مساءٱ يا بوح التراتيل
بقلم/ ثراء الجدي