الأرملة المرضعة / معروف الرصافي

لقيتها ليتني ما كنت القاها

تمشي وقد أثقل الأملاق ممشاها

أثوابها رثّةٌ والرجل حافية

والدمع تذرفه في الخدّ عيناها

بكت من الفقر فاحمرّت مدامعها

واصفرّ كالورس من جوع محيّاها

مات الذي كان يحميها ويسعدها

فالدهر من بعده بالفقر أشقاها

الموت أفجعها والفقر أوجعها

والهمّ أنحلها والغمّ أضناها

فمنظر الحزن مشهود بمنظرها

والبؤس مرآه مقرون بمرآها

كرّ الجديدين قد ابلى عباءتها

فانشقّ أسفلها وانشق أعلاها

ومزّق الدهر ويل الدهر مئزرها

حتى بدا من شقوق الثوب جنباها

تمشي بأطمارها والبرد يلسعها

كأنه عقرب شالت زباناها

حتى غدا جسمها بالبرد مرتجفا

كالغصن في الريح واصطكّت ثناياها

تمشي وتحمل باليسرى وليدتها

حملاً على الصدر مدعوماً بيمناها

قد قمّطتها بأهدام ممزّقة

في العين منثرها سمبحٌ ومطواها

ما أنس لا أنس أنيّ كنت أسمعها

تشكو إلى ربّها أوصاب دنياها

تقول يا ربّ لا تترك بلا لبن

هذي الرضيعة وارحمني وإياها

ما تصنع الأم في تربيب طفلتها

أن مسّها الضرّ حتى جفّ ثدياها

يا ربّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت

كزهرة الروض فقد الغيث أظماها

ما بالها وهي طول الليل باكية

والأم ساهرة تبكي لمبكاها

يكاد ينقدّ قلبي حين أنظرها

تبكي وتفتح لي من جوعها فاها

ويلمّها طفلة باتت مروّعةً

وبتّ من حولها في الليل ارعاها

تبكي لتشكوَ من داءٍ ألم بها

ولست أفهم منها كنه شكواها

قد فاتها النطق كالعجماء أرحمها

ولست أعلم أيّ السقم آذاها

ويح ابنتي أن ريب الدهر روّعها

بالفقر واليتم آها منهما آها

كانت مصيبتها بالفقر واحدة

وموت والدها باليتم ثنّاها

هذا الذي في طريقي كنت أسمعه

منها فأثرّ في نفسي وأشجاها

حتى دنَوت إليها وهي ماشية

وادمعي أوسعت في الخد مجراها

وقلت يا أخت مهلاً أنني رجل

أشارك الناس طرّاً في بلا ياها

سمعت يا أخت شكوىً تهمسين بها

في قالة أوجعت قلبي بفحواها

هل تسمح الأخت لي أني أشاطرها

ما في يدي الآن استرضي به اللها

ثم اجتذبت لها من جيب ملحفتي

دراهماً كنت استبقي بقاياها

وقلت يا أخت أرجو منك تكرِمتي

بأخذها دون ما منٍّ تغشاها

فأرسلت نظرةً رعشاءَ راجفةً

ترمي السهام وقلبي من رماياها

وأخرجت زفرات من جوانحها

كالنار تصعد من أعماق أحشاها

وأجشهت ثم قالت وهي باكية

واهاً لمثلك من ذي رقة واها

لو عمّ في الناس حسَنٌ مثل حسّك لي

ماتاه في فلوات الفقر من تاها

أو كان في الناس انصاف ومرحمة

لم تشك أرملة ضنكاً بدنياها

هذي حكاية حال جئت أذكرها

وليس يخفي على الأحرار مغزاها

أولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ

وأشرف الناس من في المال واساها

مناسبة القصيدة

كان الشاعر العراقي “معروف الرصافي ” جالساً في دكان صديقه الكائن أمام جامع الحيدرية ببغداد

و بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث ، وإذا بإمرأة محجبة يوحي منظرها العام بإنها فقيرة و كانت تحمل صحناً وطلبت بالاشارة من صاحبه ان يعطيها بضعة قروش كثمن لهذا الصحن

ولكن صاحب الدكان خرج اليها وحدثها همساً ، فانصرفت المرأة الفقيرة

فاستفسر الرصافي من صديقه عن هذه المرأة

فقال له صاحبه : إنها أرملة تعيل يتميين وهم الآن جياع وتريد ان ترهن الصحن بأربعة قروش كي تشتري لهما الخبز

فما كان من الرصافي الا ان يلحق بها ويعطيها اثني عشر قرشاً كان كل ما يملكه الرصافي في جيبه ، فأخذت السيدة الأرملة القروش وهي في حالة تردد وحياء و سلمت الصحن للرصافي و هي تقول : الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن

فرفض الرصافي و غادرها عائداً الى دكان صديقه و قلبه يعتصر من الالم …

عاد الرصافي إلى بيته ولم يستطع النوم ليلتها و راح يكتب هذه القصيدة و الدموع تنهمر من عينيه

“قصيدة الأرملة المرضعة “كتبت بدموع عيني الرصافي ، فجاء التعبير عن المأساة تجسيداً صادقاً لدقة ورقة التعبير عن مشكلة أجتماعية ((الفقر و الفقراء ))

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

يا نخلةً في مروج الريف تعرفني – هاجر عمر

يا نخلةً في مروج الريف تعرفني قولي لهم إنني أنأى عن المدنِ ففي شوارعها زيفٌ يلوذ به خوفٌ،وفي بحرها موجٌ من الفتنِ

%d bloggers like this: