ناداني بكل قوته هذه المرة؛ فقد همس لي طويلاً في فتراتٍ سابقةٍ، ولم أسمعه. طالما ربطتني به علاقةٌ وطيدةٌ آنفًا؛ فكنتُ أشكو له ما يضيق بي، وكنتُ أسهرُ معه. كان يلفتني دون جهدٍ منه، وأخبرته في كل مرةٍ كم هو جميلٌ وصادقٌ في كل أطواره المختلفة.
سُنّةُ الحياةِ أن تتغير الأشياء، على خلاف البشرِ الذين يتغيّرون في كل حين.
أشحتُ بوجهي جانبًا، تجاهلتُ صوتَ ندائه الشجي، وتغافلتُ عن طلّته الساحرة. بدت صورته، رغم عدم اكتماله، متجليةً بصورةِ الكمال، وكان نوره طاغيًا حتى قبل مغيبِ الوهاجة؛ لونه فضّيٌّ مهيبٌ يفوق صفرةَ الذهبِ في اليوم الحادي عشر من عمره.
هل أعلّل له وأخبره بأنني أقف على أطلالِ الخذلانِ باكيةً على نفسي لا عليهم، وأنني أجمعُ أكوامَ الخيبةِ والخسارةِ لأضعها في حقيبةٍ يصعب فتحُها، ثم أرميها بعيدًا؟ حتى في طريقي للتخلّصِ منها لا أريدُ لتلك الرائحةِ أن تعبق أنفي مرةً أخرى — رائحةٌ قادرةٌ على اختراقِ عقلي وروحي، فكيف بقلبي الهشّ؟
رأيته من بين القضبان الحديدية التي تتعلّقُ عليها شجيراتُ العنب، وأوَمَ لي بأن العلاقاتَ البشريةَ صَدِئةٌ مثلَ تلكَ التي تجلس تحتها. فمع نزولِ أولِ قطراتِ الماء يتغير لونُها سريعًا، وتتذرّعُ بأن سببَ خرابها هو الماء، رغم ما نعرفه عنهما. ثم تنتظرُ الربيعَ ليخفي قباحتَها بورقِ الشجرِ والقطوفِ مدةً لا بأسَ بها.
بينما نفسُ القطراتِ تجود بالكثيرِ من العطاءِ على الأشجارِ فتأخذُه كله، وتنمو وتفرح وتبتهل وتقول: «هل من مزيد؟»
كنتُ دومًا، ولو لم أكن بدرّ التمامِ والكمالِ، أعطيهم كاملَ قدرتي من النور، ولم أنتظر منهم يومًا المديحَ ولا التسبيحَ؛ بل ربما صبّوا اللومَ عليّ إذا غطتني شجرةٌ أو غيمةٌ، أو صار أحدهم أعشى.
هكذا هم البشر: وضيّعو الأنفسِ من يتخذونَ موقفًا صغيرًا ذريعةً ليتحوّلوا، فلا يثمرُ فيهم الخيرُ، بل يزداد لؤمُهم ولومُهم. بينما هناك الكبيرُ الممتلئُ خيرًا من يمتصُّ مواقفكَ ويثمّنُها ويشكُرُكَ على صنيعِ أفعالك.
فلا تبتئسْ منهم، وتذكّر دومًا أنك كنتَ الأفضلَ في جميع أحوالِك، تمامًا مثلي؛ وكان الخطأُ فيهم، في قصرِ نظرِهم لا فيك.
فعد إليَّ كما كنتَ صديقًا ورفيقًا.
آمنة فاضل ✍️