من ذاكرة التسع سنوات و”حارة شقيف”
جبلُ النّار، ذلكَ الجبلُ الشامخُ الصّامدُ في وجهِ الاحتلال، يحتضِنُ بينَ ذراعَيْهِ حارةَ “شقيف”، مأوى المناضلين الأحرار من أبناء طوباسيوز.
زميلتي (سناء) تسكنُ في تلكَ الحارةِ، كانت في كلِّ يومٍ تُطربُ أذني بقِصّةٍ عن تلكَ الحارة، وكيفَ أنّها تفورُ كالبركانِ بشبابِها ورجالِها ونسائِها المقاومين للمحتلّ، تمنّيْتُ كثيرًا لو أنّني أسكنُ تلكَ الحارة، كثيرًا ما كنتُ أصعدُ إلى سطحِ البيت، أقفُ في الجهةِ الشّماليةِ من سطحِ بيتِنا، المواجهةِ لذلكَ الجبل، أتأمّلُهُ وأتأمّلُ شموخَهُ وكلّي فضولٌ لاقتحامِ قلبه؛ لأجُسَّ نبضَهُ الدّافئَ بحبِّ فلَسطين، وبعدها أتوجّهُ للجهةِ الشّرقيةِ من سطحِ بيتِنا المواجهةِ للشّارعِ الرئيسيّ، أتأمّلُهُ جيدًا، وأعي جيدًا أنّ الشرارةَ تبدأُ من هُنا، من أمامِ بيتِنا، حيثُ تمطرُ السماءُ حجارةً ترجمُ دورياتِ جنودِ الاحتلالِ الذينَ يعتَدونَ على شبابِنا بالقتلِ والاعتقالات؛ فينتشرُ الجنودُ بسرعةٍ يطلقونَ الرصاصَ وقنابلَ مسيّلِ الدّموع، ولكن عبثًا، فالمُتأمّلُ للحدثِ يجدُ أنّ الحجارةَ مصدرُها ذلكَ الجبل، يلفظُها بعنفٍ على ذلكَ العدوّ، فماذا يحدثُ في ذلكَ الجبلِ وفي تلكَ الحارة؟ لا أحد يعلم، وأمّا جنودُ الاحتلالِ الجبناء، فلم يجرُؤوا يومًا على اقتحامِ ذلكَ الجبل، أو تلكَ الحارة، كانوا يُفرّغونَ ذخيرتَهم ويصبّونَ جامَ غضبِهم على من يصادفونه في طريقِهم من طفلٍ أو كهل.
وذاتَ يومٍ، كانت (طوباسيوز) منتفضةً مشتعلةً، وعائلتي تجلسُ إلّا أخوتي في تلك الغرفةِ المخصصةِ للحمايةِ من غازِ المسيّلِ للدّموع، تملّكَتني الرغبةُ في الذهابِ إلى تلك الحارة، فمِن غيرِ العدلِ أن تشهدَ صديقتي الحدثَ دائمًا، بل تكونُ في قلبِ الحدث، وأنا أكتفي بِسماعِ الخبر.
ولكنْ كيفَ سأذهب؟ وكيفَ سأُلهيهِم؟ وهل سأذهبُ وحدي؟ سأكونُ وقتَها متلبّسةً وحدي في جرمِ الهروبِ من البيتِ أمامَ والدي.
ذهبْتُ إلى المطبخ، وقلْتُ لأمّي: والدي يطلبُ منك القهوة، ويريدُها بِحَبِّ الهالِ غيرِ المَطحون.
أمّي من عادَتِها أن تطحنَ الهالَ مع القهوة، فمِن أينَ ستأتي بالحَبّ؟! بحثَتْ في المطبخِ كثيرًا ولم تجدْه، عندها أخذَت تنادي والدي: “أبو السعيد أبو السعيد”، وما كان منّي إلا أنْ همستُ في أذن أختي التي تكبُرُني بِسَنتين: “بدّي أطلع على حارة شقيف تروحي معي؟”.
“شووو بخاف…”
“خلص لعاد بروح لحالي…”
“طيب طيب بروح معك…”
تسلّلنا خِلسةً من الغرفةِ عَبرَ الممرِّ إلى الدّرجِ، فبابُ البيت، ثم انطلَقنا كالبرقِ صعودًا من شارعِ بيتِنا إلى أن وصَلنا تلكَ الحارة، ما إن وَصَلْنا حتى فوجِئْنا بما رأينا؛ الصغيرُ والكبيرُ يُلقي الحجارة، الجدّاتُ يُعبِّئنَ الحجارةَ في أثوابهنّ (ثوب الفلح القديم)، وينقُلْنَها للشبابِ المُلَثّمين، وأما النساءُ والشاباتُ صغيراتُ السّنِّ فيُعبّئنَ الحجارةَ في قُفَفٍ كانَتْ تُستخدمُ لنقلِ حجارةِ البناء، لمَحتْنا صديقتي ففرحَت كثيرًا بوجودِنا، وطلبَت مني المشاركة، وما إن بدأتُ التقاطَ أوّلَ حجرٍ بفرحٍ وسرورٍ حتى أمسكَ يدي شابٌ عريضُ المنكبَيْنِ طويلُ القامةِ ذو لحيةٍ سوداءَ خفيفة، وقال بذهول: “مش إنت أخت السعيد وبيتكم عند الشارع الرئيسيّ؟! شو جابك هون للموت؟! أبوك بعرف إنك هون؟!”
وابلٌ من الأسئلةِ هطلَ على مسامِعي، وما كانَ منّي إلا أنْ أومئَ برأسي فقط.
“بسرعة بتمسكي إيد أختك وعلى البيت مباشرة ولّا بخبر أخوك سعيد”
أمسكتُ يدَ أختي وهروَلنا إلى بيتِنا بسرعةِ البرق، وأنا أُتَمتم: “ما أثقل دمه! من وين طلع لي هاد؟! وكيف عرف إني أخت السعيد؟! أفففف… “.
سِرتُ بخطوةٍ إلى الأمامِ واثنتَيْنِ إلى الخلفِ وشيطانُ الاستيطانِ يعبثُ برأسي، وأفكاري المجنونةُ تستفزُّني في كلِّ لحظة، لكنّ نظراتِ ذلك الشابِّ المتتبعةِ لخطواتي جعلَتْها تستقيمُ إلى الأمامِ إلى أن وصَلْنا البيت.
تسلّلْنا إلى الداخلِ، فتحنا البابَ بهدوءٍ وجلسْنا، نظرَ والدي -رحمه الله- إلينا ولا زالَتِ القهوةُ بالهالِ ماثلةً أمامَه، ورائحتُها تعبقُ بالمكان، ثم قال: “انتن وين كاينات؟!”
“كنا هون على الدرج نلعب بيت بيوت”
“بيت بيوت! مش سامعات صوت الرصاص والقنابل؟ ولو انخنقتن بمسيل الدموع وما حد داري عنكن”!
“لا ما بصير لنا شي اطمن”
حدّقَتْ أختي بي وهي تعضُّ على شفتَيْها، تُتَمتِم: “لا ما بصير لنا شي أبدا!”