العلاقات اللحظية
بقلم غادة العزام
نشهد في الآونة الأخيرة تغيرات ملحوظة في كاريزما العلاقات الحياتية المتعلقة بين الفرد والمجتمع حيث تتغلب العلاقات اللحظية على أطباع الكثيرين وهي تتمثل بانتصار الأنا الفردية على حساب الشعور بالآخرين، حيث إنها تتجسد في البحث عن الخلود والاستمرارية في ذات اللحظة، لكنها تنتهي بتعزيز الشعور بالفناء والعدمية، أي الشعور بعدم الوجود واستنكار الذات
سأتحدث بصلب الموضوع وهو (الوجودية والسيولة)
الحداثة السائلة هو مصطلح أو مفهوم أطلقه عالم الاجتماع البولندي باومان
وضح فيه أننا نعيش في عصر السيولة، حيث كل شيء عابر وقابل للاستبدال، وأن العلاقات اللحظية هي انعكاس لنمط الاستهلاك، فنحن في حالة استهلاك، حيث يستهلك أحدنا الآخر كما نستهلك السلع، بمجرد أن تنتهي المتعة أو المنفعة.. يتم التخلص من العلاقة، لأن الالتزام في هذا العصر يُنظر إليه كقيد يمنع الفرد من تجربة خيارات جديدة
العلاقات اللحظية هي المحاولة للبقاء في السطح، حيث الصورة تكون مثالية دائماً، وهي هروب من ثقل الوجود والمسؤولية تجاه إنسان آخر أو حتى تجاه شيء آخر
وهناك ما يسمّى بقانون العائد المتناقص
في البدايات يكون العائد العاطفي مرتفعاً جداً بأقل مجهود، والعلاقات اللحظية تعتمد على هذا العائد السريع
منطقياً، عندما يبدأ المنحنى بالهبوط (وهذا طبيعي في أي علاقة) ينسحب الشخص تدريجياً ليبحث عن قمة جديدة مع شخص آخر، مما يخلق حلقة مفرغة من البدايات التي لا تصل أبداً لعمق النضج
ويقودنا هذا الهبوط إلى تجزئة الذات بدلاً من بناء هوية متماسكة من خلال شريك يعرف تاريخك، إلى تفكك وتشتت في الذات، حيث أنك تصبح عبارة عن شظايا موزعة على أشخاص كثر كل منهم يعرف جزءاً صغيراً ومزيَّفاً أو حقيقياً منك
لذا إن مواجهة الحداثة السائلة تكمن في إعادة الاعتبار للعمق في زمن يقدس السطحية، وهي محاولة لخلق مساحة خاصة يسكنها الهدوء واليقين وسط ضجيج التغيير المستمر
علينا إتقان عملية الاستغناء، وهي تكون بتدريب النفس على الاكتفاء وعدم الركض خلف كل نداء يردده صدى الوهم
كذلك أمامنا خيار التحول من الامتلاك إلى الكينونة، وهو التركيز على من أنا؟ وماذا أتعلم؟ وماذا أريد؟ بدلاً من ماذا أملك؟
وهنا نستطيع أن نقول إن
المواجهة لا تعني إيقاف العالم عن الدوران… بل تعني أن نتعلم السباحة في هذا السائل
و نرى أن تغلغل العلاقات اللحظية في الوعي المعاصر
يُعد السمة الغالبة التي أعادت صياغة صلة الإنسان بكل ما يحيط به، فلم تعد مجرد سلوك عابر، بل أصبحت نمطاً وجودياً يقتحم كافة الجوانب الحياتية ويتمحور ذلك في الكثير من الأمور مثلا
العمل / ويكون على هيئة الشعور بالقلق من تحول المسار المهني من انتماء واستقرار إلى محطات مؤقتة
التعليم / حيث أصبح التخصص مجرد أداة لحظية لعبور مرحلة ما، لا بناءً فكرياً تراكمياً يستمر مدى الحياة.
أما بالنسبة للروابط الاجتماعية كالصداقة الهشة وهي أن الصداقات تشكلت على أسس قابلة للاستهلاك حيث يسهل الدخول فيها والخروج منها بأقل جهد عاطفي..
وأخيرا العلاقة مع المحيط والوجود حيث امتدت هذه السيولة لتشمل علاقة الإنسان بالأشياء، والأمكنة، وحتى المبادئ فكل ما هو حولنا أصبح قابلاً للاستبدال الفوري بمجرد انتهاء (صلاحيته النفعية) أو ظهور بديل (أكثر لمعاناً)
وكانت النتيجة تشوّه كامل
أدى إلى تجزئة الذات الإنسانية.. فالفرد الذي يحيط نفسه بعلاقات لحظية في كل شيء، يجد نفسه في النهاية يعيش (وجوداً مؤقتاً) يفتقر إلى المعنى الثابت والسكينة الروحية
لذا إن الاستفاقة الإدراكية هي المنقذ الوحيد
الذي سيشفع لقمع هذا التفشي في المجتمعات التي تبدأ تحديدا في نواة كل شخص
العلاقات اللحظية
ظاهرة تقتحم الوجود وتؤثر على فسيولوجية الطبيعة
ظاهرة تستحق أن نلتفت لوجودها
لأننا إذا استمررنا في الذوبان دون وعي، سنصل إلى مرحلة العدمية الكاملة، حيث لا شيء يملك معنى ولا شيء يملك الوجود
والالتفات إلى هذه الظاهرة هو محاولة
لاسترداد إنسانيتنا من براثن الخوارزميات والسرعة
الحل هو الوعي باللحظة والتمسك بالعمق
علينا بالصبر في البدايات وإعطاء قيمة للوقت واليقين بأن كل شيء يحتاج الوقت لينضج
كذلك التركيز على الاستمتاع في الرحلة (كل محطات حياتنا) أي الانتباه لكل التفاصيل والتعمق بها
والتعامل بشكل إنساني مع الآخرين ومراعاة مشاعرهم ووجودهم هم ليسوا مجرد أداة مؤقتة لتعديل المزاج!
والأهم هو حُسن الاختيار وربط العاطفة بالعقلانية وعدم الانجراف نحو الهاوية
الحلول بسيطة وبأيدينا نحتاج فقط الوضوح لتضح الرؤية.
جريدة وإذاعة سقيفة المواسم الثقافية ثقافية ، اجتماعية ، فنية
