السفر والقصيد “أهذا ما تعطيه لي الكلمات ” لنصر سامي “تتمة ” / د.فطنة بنضالي
عبدالرحمن ريماوي 25 يونيو، 2020ابحاث ادبيةالتعليقات على السفر والقصيد “أهذا ما تعطيه لي الكلمات ” لنصر سامي “تتمة ” / د.فطنة بنضالي مغلقة462 Views
2- من حيث الصورة الفنية
يقول الشاعر نصر سامي (لم تمكني القصيدة من حياة غير ما أحياه فيها!… مكنتني من تواريخ الفجائع في الأساطير القديمة والحديثة)، إذا كان التاريخ هو الزمن المستمر الذي لا يتوقف، فالفجائع هي ما عرفته الإنسانية من وقائع وأهوال ومصائب وثقها التاريخ بأشكالها ومعانيها، ولكن كما يقول عبد العاطي بانوار “هدف قصيدة النثر الشكلية هو التحكم في الزمن، وإخضاعه للانتظام الإيقاعي، والإقامة داخل زمن”موسيقي”، وعقلي، منسحب من التدفق اللامتناهي للمصير، من ثمة يريد شعراء هذه القصيدة، بواسطة طرق مختلفة عن طرق العروض، (…)، أن يضعونا من جديد فيما هو خالد”8. أي المغاير الممتد في التاريخ، ومن أجل ذلك اعتمد الشاعر في التعبير عن معاناته، وإبراز تجربته على الروعة الفنية في التركيب والعمل على تنسيق الصور، وقدرة هذه الصور على نقل المشاعر الذاتية، والتعبير عن الأفكار، ولقد استحضر الرموز والأسطورة في أبعادها الإنسانية، من ذلك: الطوفان والسفينة والماء المدمر، في قوله (وعد بإمكانية الطوفان، للغمر أمواجي …، أرسل الطوفان، …فالماء دمر كل شيء) يستحضر هنا الطوفان العظيم وسفينة نوح عليه السلام، كما وردت في الآية 40 ، من سورة هود، في قوله تعالى: ” حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل. ” فحينئذ أمر الله نوحا – عليه السلام – أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح – قيل: وغيرها من النباتات – اثنين. ذكرا وأنثى”9. استغل الشاعر فكرة النجاة في السفينة؛ زوجين من كل نوع ؛ للدلالة على الوضع القائم، وعلى أن الشاعر يتوق إلى النجاة ، ولكنه وحده، إذ الأنثى/ القصيدة، لم تمكنه من شكلها النهائي، قال : (لم نختلف إلا على شكل الإقامة في الدنى)، وهو في حوار “مرتب” معها، في حالة اجتياح “للغمر” و”الطوفان ” والبحث عن الملاذ و الخلاص من معاناته، قصد تحقيق توازن نفسي للذات الشاعرة، ويختار الألفاظ والصور اللغوية المحملة حمولة دينية، كقوله : (مثل الأنبياء)، ( ولا براق لكي نصلي)، محيلا على (الغيب) و(الفيض) علاقات أخرى يعيشها ضمن اللغة في علاقتها بالإبداع، والتعبير على النحو المخصوص.
كما استعمل أيضا أسطورة العنقاء في قوله: (لم تقدر العنقاء أن ترث الرماد)، وتعد أسطورة طائر العنقاء من أساطير “البعث” أو الحياة المتجددة، ومن الأشكال التي تتجلى فيها أسطورة البعث عند الإغريق طائر الفينيق، وعند العرب طائر العنقاء، ” وعند من رأى أن طائر العنقاء هو نفسه طائر الفينيق الذي نجده في الأساطير اليونانية، والذي ينسبه اليونان إلى بلاد العرب، فالأسطورة تصوره بأنه “طائر بديع يشبه النسر، ريشه أحمر مذهب مقدس لإله الشمس في القطر المصري، يظهر للبشر كل خمسمائة سنة ، ويقطن بلاد العرب، إذا أشرف على الانتهاء يضع بيضة في عشه ويموت. وسرعان ما كانت تفقس البيضة عنقاء جديدة، إذا ما وصلت إلى سن البلوغ حملت أباها الفاني في العش إلى هيليوبوليس في القطر المصري ووضعته فوق مذبح إله الشمس وحرقته ذبيحة، وهناك رواية أخرى تقول إنه بعد مضي خمسمائة سنة على العنقاء تحرق نفسها في كومة الحطب، ومن الرماد المخلف تحيا وتجدد شبابها لتعيش مرة أخرى”10. وقد استعمل الشاعر العنقاء للدلالة على التجدد في الحياة وفي روح القصيدة وأشكالها المتطورة كما تنبعث العنقاء من رمادها، يجب أن يتجدد الشاعر ويتطور في علاقته بأشكال القصيدة ، وعمد الشاعر إلى مكونين من مكونات هذه الأسطورة وهما النار والرماد في قوله: (أحب أن تمتد في أسطورتي النيران وأن يمتد في لغتي الرماد) حيث النار حد فاصل بين مرحلتين؛ قديمة وجديدة، وعنها ينتج الرماد الذي هو أساس الانبعاث والتجدد والاستمرار، وذلك في علاقة الشاعر باللغة، فأعطاهما نفسا جديدا في علاقته بالخلق و الإبداع للدلالة على التحول والتجدد؛ رمزية فائقة، وهي دليل على مدى قدرة الشاعر الإبداعية، حيث يصدق عليه قول عز الدين إسماعيل: “يتعامل الشاعر المعاصر مع الرموز القديمة فإنه يخلق كذلك الرمز الجديد وينشئ الأسطورة الجديدة، وهو في هذا يحتاج إلى قوة ابتكارية فذة، يستطيع بها أن يرتفع بالواقعة الفردية المعاصرة إلى مستوى الواقعة الإنسانية العامة، ذات الطابع الأسطوري، كما أنه يستطيع أن يرتفع بالكلمة العادية إلى مستوى الكلمة الرامزة”11.
ولقد استوحى الشاعر من الطبيعة مجموعة ألفاظ موحية رمزية منها مثلا: (التراب ) (الشجيرات)، فالتراب يرمز إلى دورة الحياة البداية والنهاية، في حين أن الشجيرات تدل على بداية الحياة و العنفوان، وعلاقتها بالتراب هي علاقة استنبات في الأصل النقي، وكل منهما يستلزم الآخر في قول الشاعر: ( ولم تمكني القصيدة من تراب أو شجيرات لأغرس فكرتي في الظل …أو قرب الشتول)، ويقابل بين ألفاظ أخرى تنتمي للطبيعة من قبيل،(الليل) و(الظل) و(الظلام)، في مقابل (النجمة) و(الضوء) و(البرق) و(الشمس)، واستعملها في إيحائيتها، حيث تشير النجيمات إلى قصائد تبرق أثناء الترحال في الليل وظل الشجر، و أكثر من ذلك هي دالة على السبيل؛ (نجمة تقتادني لأرى البعيد) ،هادية للرؤيا، للقصيدة في شكلها الجديد، ذلك الشكل الذي يمتص كل الأشكال، ويحدد وجودا مغايرا للمرحلة السابقة، من حيث الإشراق والرؤيا والاستشراف للمستقبل الذي توحي به الأفعال المضارعة المرفوقة بالأدوات الدالة على المستقبل: سوف، والسين (سأغيب كي تتمكن الأشجار من إيراقها، سوف أبدا من جديد، سوف أستسقي الغيوم).
3- من حيث الصورة الإيقاعية
انطلاقا من كون الإيقاع – في الشعر- لا يقتصر على الوزن فحسب، “وإنما آثار الإيقاع تنبع من قيم التوازن الصوتي التي تعتبر أساسية في كل شعر، إذ ترتبط هذه القيم بعنصر التخييل الشعري فتخلق ما يسمى بالصورة الإيقاعية”12. وتتمظهر هذه الصورة في القصيدة في التوازي الذي هو “بمثابة متواليتين متعاقبتين أو أكثر لنفس النظام الصرفي – النحوي المصاحب بتكرارات أو اختلافات إيقاعية وصوتية أو معجمية – دلالية، وعليه فهو يتضمن خاصيتين متلازمتين: الأولى إنه عبارة عن علاقة تماثل – تتم على مستوى أو مستويات لسانية – بين طرفين أو أكثر. والثانية: العلاقة القائمة بين الطرفين تنبني على مبدأين هما التشابه والتضاد، مادام كل طرف يحتفظ رغم التشابه بما يميزه.13
فالتوازي ظاهرة إيقاعية دلالية لها أهمية كبرى في بناء النص وتكشف عن قدرة الشاعر الفنية، “إن وظيفة التوازي في النص الشعري لا يمكن قسرها على المستوى الإيقاعي فحسب، لأن التوازي ظاهرة موسيقية ومعنوية في أن واحد”14.لا يمكن أن يستغنى عنها في النص الإبداعي ، ومن مظاهرها في قصيدة “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات ؟” قول الشاعر:
أما من نجمة تقتادني لأرى البعيد بضفتيه معا؟
أما من لحظة فيضية تمتد كي أتأمل الأعماق وحدي؟
حيث يقوم التوازي هنا بتقوية الفكرة عن طريق التكرار والمغايرة، إذ يخلق الاستفهام على المستوى الصوتي دلالة يعزز فيها التركيب الثاني معنى الأول، تصويرا لحالة الشاعر الحائر المتسائل، بترادف الاستفهام، والتقارب على مستوى التركيب، استعمال نفس الأداة، متبوعة بحرف الجر، وإن تفاوتت الصيغتان تركيبا، إلا أن تتابع الأفعال المضارعة التي تدل على الحاضر والمستقبل تفيد حركية يستشرفها الشاعر نحو المستقبل والخلاص من واقعه المتسائل ، ويقوم التوازي هنا على التناظر المعنوي في قوله (أرى البعيد بضفتيه) و(أتأمل الأعماق وحدي )، تأكيد الشاعر على أن الرؤيا تنبثق من الذات الشاعرة، تستكنهها، وعلى اللحظة الفيضية التي ينتظرها، لولادة القصيدة الجديدة.
ويقول:
بدأت أفرح بالقصيدة كي أرى بلدي الذي يحيا معي،
بدأت أفرح بالقصيدة كي أرى ولدي الذي لم يأت بعد،
بدأت أفرح بالقصيدة كي ….
تماثل تام في الجملة المتكررة، بدأت أفرح بالقصيدة، الذي يفيد التأكيد على المعنى، كما تربط بلدي وولدي علاقة تجانس على مستوى المعنى وعلى مستوى الصوت ، وتربط الذي يحيا معي/ الذي لم يأت بعد، علاقة تضاد بين المكونات والتركيب معا. شكلت الجملة الفعلية صدر التركيب، غير أن الصيغة الثالثة أتت ناقصة بالقياس لما سبقها، استعمل الشاعر فيها البياض الذي ينبئ بعدم إتمام المعنى، وأنه مفتوح على النهايات، وكأن الشاعر أراد أن يحيلنا على الحالة التي لم تستقر بعد، ولم تكتمل فيها الفرحة بالقصيدة مشيرا إلى أنها البداية التي يؤكدها الفعل “بدأت”. وقد أدى تكرار الجمل الفعلية على المستوى النحوي وظيفة مهمة لخدمة التماسك النصي، إذ لم يأت التوازي ليحقق هدفا إيقاعيا فحسب، ولكنه جاء خادما للدلالة، ومحققا تفاعلية تواصلية”15.مع القارئ، و بين مكونات النص على مستوى التجريب.
يقول الشاعر :
ألف برق حط في جسدي المعبإ بالنجوم،
ألف برق كلها مدت طريقا نحو روحي،
ألف برق كلها حبلى وملأى بالغيوم،
ألف برق تجتاح روحي كي تفجر نفسها في داخلي،
تماثلت البداية في كل التراكيب، بينما خلا الأول والأخير من لفظ “كلها” التوكيدية، واستفرد الأخير بكي التفسيرية، فعلاقة التراكيب ببعضها علاقة تماثل وتغاير، واحتل التركيب الأخير مساحة أكبر من غيره، وعلى الرغم من تغاير الصيغ ، فإن الضغط على التعبير “ألف برق” وتكرارها خلق صورة الإلحاح على الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، بل أكد أن علاقته بالقصيدة علاقة معاناة، تستفاد من التعليل في التركيب الأخير (كي تفجر نفسها في داخلي ). وعزز الصورة التعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الاستقرار والثبات مقارنة بالجملة الفعلية. مما يبرز أن ” توازي التراكم بشكل واضح مع تكرار لفظة الصدارة يؤدي وظيفة مهمة لخدمة الإيقاع والدلالة “16.
وعلى هذا المنوال بنى الشاعر نصر سامي التوازيات على جمل متنوعة بين الجمل الفعلية والاسمية وأشباه الجمل، و تظافرت كلها لخدمة المستوى الدلالي والإيقاعي في القصيدة، فقد تحكم الشاعر في البنية الزمنية لهذه الجمل من أجل التعبير عن صورته الوجدانية وحالته تجاه القصيدة، من خلال أهمية التوازي الشعري”، إنه يلعب دورا بارزا في شد بنية النص وتواشيح مستوياته، فهو أداة مهمة بيد الشاعر لما له من وظيفة مهمة “17، استغلها الشاعر في التعبير عن مواقفه وأفكاره .
تنتظم القصيدة “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات” بنية دلالية إيقاعية كبرى، تشد أوصالها في وحدة متماسكة عبر الشاعر عنها بالرؤيا، حيث جمعت المتناقضات وألفت بينها في انسجام تام، مكونة بنية دائرية مغلقة على نفسها، ساهم في رفع إيقاعها الدلالي التساؤل والسؤال، وتصعد تكثيف المعنى والدلالة، بشكل ينمي حرارة العاطفة في القصيدة ويشحذها بتضافر التخييلي والرمزي في تعبير الشاعر عن مواقفه ومشاعره بصور فنية لا يمكن للغة العادية أن تعبر عنها. وهذا ما ميز القصيدة في تواجدها الفني .
وهكذا، بدت قصيدة “أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات؟” محكمة البنية الدلالية والإيقاعية بصورها المتنوعة والمتسقة التي تجعل النص وحدة محكمة البناء في صورة دائرية بين العنوان والمتن، إذ شغل فيها الزمن المضارع مساحة كبيرة من النص مقرونا بضمير المتكلم الذي يهيمن صوته على النص، وذلك لأن الشاعر يؤمن بالمستقبل الذي سيأتي مغايرا للحاضر والماضي. ذلك التفاؤل الذي نسبه الشاعر للقصيدة، وهو فرح تعبر عنه اللغة، مشوب بالخوف والرجاء والأمل عند الشاعر، حققته القصيدة الطويلة الجمل المطلقة العنان والمنسابة دون قيد مستغلة مقومات الشعر والنثر في شكلها الدائري. ولعل الشاعر في قصيدته هذه وفي ديوانه سِفر البوعزيزي سيضع حدا فاصلا بين منعطفين في تجربته الشعرية، ساعيا إلى القبض على المنفلت معنى وشكلا.
الهوامش
8- عبد العاطي بانوار، تحاور الأنواع الأدبية، ص، 136.
9- تفسير ابن كثير، ج 4، دار طيبة للنشر، 2002، ص 321.
10- الدكتورة تهاني عبد الفتاح شاكر، تجليات أسطورة البعث في ديوان، “لا تعتذر عما فعلت” و” كزهر أو أبعد” لمحمود درويش مجلة جامعة دمشق – المجلد 26 -العدد الأول – الثاني 2010 ، ص 163.
11- عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية، بيروت، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، ط3، 1981، ص217.
12- محمد كنوني التوازي ولغة الشعر، مجلة فكر ونقد، ع18، 14 أبريل 1999، ص79.
13- المرجع نفسه،الصفحة نفسها.
14- غانم صالح سلطان، التوازي في قصيدة محمود درويش ( عاشق من فلسطين)، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، المجلد 11، ع 2، 2011، ص 362.
خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة
سقيفة المواسم الألكترونية
جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،