مقاربة سيميائيّة دلاليّة في قصيدة “أطفال شاتيلا” للشّاعر الدّكتور أحمد الرّيماوي
بمناسبة الذكرى (41) لمجازر صبرا وشاتيلا
بقلم الشاعر: محمود جمال ريان
*الملخصّ:
تسعى هذه الدّراسة إلى رصد ووصف البُنية السّيميائيّة في قصيدة “أطفال شاتيلا” للشّاعر الفلسطينيّ أحمد الرّيماوي، وذلك في محورينِ: المحور الأفقيّ؛ في المستويات الصّوتيّة والتّركيبيّة والمعجميّة والدّلاليّة. والمحور العموديّ؛ تطرّقًا إلى البنى الثّلاث، التّشابه والتّناقض والصّراع أو التوتّر. وقد خلصنا إلى أنّ القصيدة ذات بُنية عميقة تتجسّد في الأصوات الّتي تجعل من أطفال شاتيلا في مواجهة مع العدوّ السّالب للحياة والوجود المكانيّ، وصولًا إلى البطولة الّتي حقّقوها للإنسان والمكان. وبذلك جسّدت القصيدة آلام الشّعب الفلسطينيّ بِرمّته، لكنّ الواقع الجديد يُغيّر المعادلة، وتصبح هناك حالة جدليّة بين الماضي والحاضر، الوجود والعدم، المكان واللّامكان، وبالتّالي يوصل الشّاعر قصده الواعي المفعم بالأمل والتجدّد.
(كلمات مفتاحيّة: الشّعر المعاصر، سيمياء الدّلالة، رولان بارت، صبرا، عشتار، أسطورة، اللّفظ والمعنى، أحمد ريماوي)
تقديم:
يعدّ الشّعر المعاصر رسالة المعبّر عن قضاياه وهمومه وآماله، حيث تنطلق من بين ثناياه أحلام تعبّر عن تجربة شعريّة حقيقيّة واقعة.
لقد أثبت النّقد السّيميائيّ فاعليّته وجدواه، حين تجاوز النّقد البنيويّ الشّكليّ الّذي كان يقتصر على وصف بنية النّصّ السّطحيّة، وعلى بيان علاقات وحداته ببعضها بعضًا. بينما يحاول النّقد السّيميائيّ وصف البُنية الظّاهرة للنّصّ في مستوياتها الصّوتيّة، والتّركيبيّة، والمعجميّة والدّلاليّة، ثمّ يتعمّق النّصّ الأدبيّ فيبحث في بنياته العميقة، مكتشفًا معانيه التّواصليّة، والمعاني المصاحبة للنّصّ.
والقصيدة “أطفال شاتيلا” مأخوذة من ديوان “هلّت من صبرا عشتار”[1]، الصّادر عام 1984، ولعلّ عنوان المجموعة يستوقفنا قليلًا كونه يحمل دلالة رمزيّة، أسطوريّة وذلك في لفظة عشتار؛ وهي آلهة الجنس والحبّ والجمال والخصوبة والتّضحية في الحرب عند البابليّين، ويقابلها لدى السّومريّين إنانا، وعشتاروت عند الفينيقيّين وهي نجمة الصّباح والمساء (كوكب الزّهرة)، ورمزها نجمة ذات ثماني أشعّة منتصبة على ظهر أسد، على جبهتها الزّهرة وبيدها باقة وردة. هي آلهة رئيسيّة في بلاد الرّافدين، وكان لها دور مهمّ ومعقّد في ديانات الشّرق الأدنى القديم وحضاراته.
وبالتّالي ندرك ارتباط عشتار بصبرا، كتناصّ أسطوريّ يمثّل انبعاث صبرا من جديد!
سنحاول في هذه القراءة تطبيق المنهج السّيميائيّ في النّقد الأدبيّ في القصيدة الّتي اخترناها.
وتعدّ سيمياء الدّلالة بحثًا عن قراءات دفينة في أغوار النّصّ، حيث يعزى هذا الاتّجاه إلى رولان بارت Rolan Barth
الّذي يرى أنّ جزءًا كاملًا من البحث السّيميولوجيّ المعاصر مردّه إلى مسألة الدّلالة[2]، حيث جعل بارت علم العلامة جزءًا من علم اللّغة، فقد قلب فكرة اللّسانيّ دي سوسير De Saussure وأخذ موقفًا جليًّا وحاسمًا من النّصّ الأدبيّ؛ فآمن بالإنتاج بدل الاستهلاك باحثًا عن نصّ منكتب قابل للكتابة متعدّد الأصوات.
إنّ اللّغة وضع لا بدّ منه، فالمقاربة النّقديّة وفق سيمياء الدّلالة تفرض دلالة تشتغل وفق علاقة دالّ ومدلول تحكمه علاقة
تدليليّة، فالبحث السّيميائيّ هو دراسة الأنظمة الدّالّة من خلال التّركيز على الثّنائيّات اللّسانيّة؛ اللّغة/ الكلام، الدّالّ/ المدلول، المركّب/ النّظام… وعليه اكتسب المنهج السّيميائيّ خصوصيّة وأصبحت القراءة النّقديّة على ضوئه قراءة إنتاجيّة تحاول تقريب القراءة من الكتابة، فيصبح القارئ كاتبًا ومنتجًا “وعليه فلا مهرب للأبحاث المعاصرة في العديد من الحقول المعرفيّة من الخوض مباشرة في مسألة الدّلالة، وبالتّالي فإنّ المقاربة السّيميولوجيّة ضروريّة، لأنّ أغلب الوقائع تحمل الدّلالة، بل إنّنا نواجه مُجدّدًا اللّغة. ومن الأكيد أنّ الأشياء والصّور والسّلوكيّات يمكنها أن تدلّ، إلّا أنّها لا تقوم بذلك أبدًا بصورة مستقلّة عن اللّغة. فكلّ نسق سيميولوجيّ يمتزج باللّغة، وكلّ المحاولات ذات العمق السّوسيولوجيّ تفرض وجود اللّغة”[3]. وللإيحاء دوره في صقل المعنى وإثراء الدّلالة، لما له تأثير على تعدّد التّفسير أو تعدّد المعاني ذات الحقول الدّلاليّة الكثيرة، وبذلك يشكّل ثيمة ذات أبعاد كثيرة، تعتمد في إثرائها على ثقافة القارئ ومدى إلمامه في ثقافة الأديب أو الشّاعر، بصفتها تقرّب الصّورة إلى أذهاننا، باعتبار الدّلالة أو المعنى صنو الإشارة اللّغويّة، وهذا بدوره يعزّز نهج الإيحاء وبدونه لا نصل إلى خصوصيّات القراءة الشّعريّة، في تحوّلاتها الاجتماعيّة والسّوسيوثقافيّة والنّفسيّة والأيديولوجيّة…
ويؤكّد بارت على مفهوم الإيحاء بوصفه محرّكًا ومنشّطًا لعمليّة التّحليل السّيميائيّ “وعندما نمعن النّظر في التصوّر السّيميائيّ عند بارت، فإنّنا نلاحظ انبناءه على مفهوم الإيحاء. فلا وجود لرأي قيمة سيميائيّة للكلام واللّسان، والدّال والمدلول عنده، إلّا في حدود أنساق إيحائيّة منسجمة مع الأنساق”[4] . يركّز بارت على فكرة الإيحاء الدّافعة والمحفّزة لعمليّة القراءة العميقة، ولذلك فالنّصّ الأدبيّ بالنّسبة لِبارت الّتي تعني “أنّ مبدأ العقل ليتصوّر كلّ الاحتمالات أو الفروض الممكنة الّتي تفسّر الوقائع، ومعنى هذا أن يحلّق العقل في آفاق الخيال ليتصوّر الاحتمالات والفروض”[5].
يُعدّ النّصّ الأدبيّ من هذه الوجهة التّربة الخصبة للخوض في قراءة دلاليّة واعية تسبح عميقًا في مساراته، وعليه تتعدّد القراءات والتّأويلات باحثة عن الدّلالات القابعة جاعلة المتلقّي مُنتجًا ثانيًا فعّالًا، فنصّ اللّذّة “ذلك الّذي يُرضي، يُفعمُ، يعطي المرح، ذلك الّذي يأتي من الثّقافة ولا يتقاطع معها، إنّه مرتبط بممارسة مريحة للقراءة”، على حدّ تعبير تودوروف[6].
وقد توسّلنا مقاربة النّصّ الشّعريّ وفق سيمياء الدّلالة الّتي من روّادها “رولان بارت” الّذي عدّ “القارئ أو النّاقد ليس مستهلكًا للنّصّ فحسب، بل هو منتج له أيضًا”[7].
المُقاربة النّقديّة:
لقد تعرّضنا بعجالة لبعض آراء حول سيميولوجيا الدّلالة، وسنتناول القصيدة الّتي اخترناها من الدّيوان بقراءة تحليليّة دلاليّة من خلال تتبّع البُنية السّطحيّة من تشاكل وتمازج المستويات الصّوتيّة، والمعجميّة، والنّحويّة، والتّركيبيّة والدّلاليّة بمحاورة دلالات البنية الدّاخليّة العموديّة.
– العنوان
إنّ العنوان يمدّ القارئ بزاد ثمين لتفكيك النّصّ ودراسته، وهو المحور الّذي يتوالد ويتنامى، ويعيد إنتاج نفسه، والّذي يحدّد هويّة القصيدة، على حدّ تعبير النّاقد محمّد عزّام. والعنوان هو أوّل العتبات في قراءة النّصّ، فهو مفتاح القصيدة الشّعريّة، وتبقى دلالته مفتوحة على جميع القراءات المرتبطة بمضمون النّصّ فهو “نظام سيميائيّ ذا أبعاد دلاليّة وأخرى رمزيّة تُغري الباحث بتتبّع دلالته ومحاولة فكّ شفرته الرّامزة”[8].
يُحيلنا عنوان القصيدة “أطفال شاتيلا” لحقبة زمنيّة تتعلّق بمجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982، بل لا نجد هنا رمزًا أسطوريًّا للعنوان، كما هو في اسم الدّيوان، لربّما لأنّه يرصد حدثًا واقعيًّا حدث قبل أربعين سنةً، من عمر الصّراع الّذي نحياه. والشّاعر معروف في اختياره لعناوين موحية، لها فاعليّتها على القارئ والمحلّل. إذ إنّ الشّاعر ملتزم تجاه قضيّته العربيّة الفلسطينيّة، وبقدر هذا الالتزام فإنّه يطرح قضايا ساخنة، أو أحداثًا قاصمة، ويمدّها من جديد عبر رؤيته الشّاعريّة والإنسانيّة والتّاريخيّة، وليس غريبًا أن افتتح الشّاعر الرّيماوي كلّ مقطع من قصيدته بِ “أطفال شاتيلا”، ومن خلال القراءة الأوّليّة للعنوان يحفّزنا بوضعه آليّة لبحث المتن الشّعريّ عبر القراءة، فيكون جوهر القراءة منصبًّا للبحث عن الدّلالات، وبالتّالي فإنّ العنوان أحال لزمنيّة ثابتة تتعلّق بقدسيّة الحياة، وضرورة الانتصار على الموت وقهر الحرب بهيمنة الإنسان وتعاليه عمّا يدمّر حقيقة وجوده وثباته في أرضه.
والآن سننتقل لدراسة المتن الشّعريّ، وفق قراءة سيميائيّة مقسّمة بين مستوًى أفقيّ وعموديّ.
أوّلًا- المحور الأفقيّ
سنتطرّق لمقاربة سيميائيّة دلاليّة تكشف عن دلالات البنية السّطحيّة من خلال المستوى الصّوتيّ؛ والمعجميّ؛ والتّركيبيّ والدّلاليّ المعنويّ.
المستوى الصّوتيّ:
شغلت القيمة التّعبيريّة للصّوت اهتمام الباحثين منذ اليونان الّذين قالوا باعتباطيّة اللّغة، وصولًا إلى القرن التّاسع عشر، حيث ظهرت أبحاث زعمت بوجود علاقة بين أصوات اسم العلم وبين خصائصه الجسميّة والنّفسيّة، وانتهاء بالباحث دي سوسير القائل بعفويّة اللّغة. أمّا في الثّقافة العربيّة فقد قال بالقيمة الذّاتيّة للصّوت “ابن جنّي” في كتابه الخصائص، فجعل الصّاد مثلًا أقوى من السّين، لما في الصّاد من الاستعلاء، ولما في السّين من الاستتار.
ولكن عبد الله السّيّد البطليوسي رأى في كتابه “الاقتضاب في شرح أدب الكاتب” أنّ هذا القياس غير مطّرد[9].
وجدنا أنّ حرف الشّين يتردّد بكثرة في القصيدة، علمًا أنّ هذا الحرف يدخل في كثير من اللّغات السّاميّة، وليس العربيّة وحدها، على بعض الألفاظ مفيدًا المبالغة، عدا كونه هامسًا كما في شاتيلا، شبابيك، أشبال، الوحش، الشّهداء، شبّت شظايا، مشانق، عرش، البشر، الشّعوب…
ولعلّ الشّاعر استمدّ اسم ديوانه الّذي يحوي قصيدته هذه من السّاميّة القديمة “هلّت من صبرا عشتار”، فالآلهة عشتار كما ذكرنا رمز الخصب والنّماء، ربّة الخصوبة الّتي تشجّع على التّناسل والزّواج، فأصل اسمها جذر ساميّ ثلاثيّ (ع.ت.ر)، وإنّما جاءت الشّين للمبالغة، وقد أكثر الشّاعر من استعمال حرف الشّين، كارتباط نفسيّ وثيماتيّ بِعشتار، وفي ذلك إشارة إلى سيطرة الرّؤية الشّعريّة ومكان الحدث على نفسيّة وحدس الشّاعر الرّيماوي.
وفي الموسيقى هناك الوزن، والإيقاع، والتّنغيم، وقد اهتمّ العروضيّون العرب بالأوزان والتّفعيلات وما طرأ عليها من زحافات وعلل…واهتمّ المحدثون بالإيقاع وقسّموه ثلاثة أنواع: إيقاع الوزن، وإيقاع النّغم، وإيقاع النّبر. وفي القصيدة يظهر الإيقاع الوزنيّ وتبرز القافية بشكل ملحوظ.
أطفالُ شاتيلا بيارقْ
أطفالُ شاتيلا بنادقْ
أطفالُ شاتيلا خوارقْ
أطفالُ شاتيلا حرائقْ
أطفالُ شاتيلا مشانقْ…
في عصرِ ياسرَ…عصرِ ناصرَ…عصرِ أبطالٍ غُررْ
إنّ الشّعوب ستنهمِرْ / إنّ الشّعوبَ ستنتصرْ
ولعلّ الشّاعر استعاض عن القافية في نهاية نهاية السّطر الشّعريّ، باستخدام التّكرار على مستوى الصّوت والكلمة والتّركيب؛ فيقوم بدور كبير في الإقناع، وله تأثيره في نفس المتلقّي، سواء أكان التّأثير إيجابيًّا أو سلبيًّا.
ولاحظنا تكرار التّراكيب كما في الأمثلة الآنفة الذّكر، الّتي تُحدث تنوّعًا موسيقيًّا شعريًّا، من شأنها تقريب المعنى، وبثّ حالة الشّاعر النّفسيّة المتأرجحة بين الأمل واليأس. ولعلّ الشّاعر يمتح من قاموس مفرداته ويبثّها في قصيدته ليخلق دراما خاصّة، أو قل أوركسترا يمجّد الّتي فيها البطولة الّتي حقّقها أطفال شاتيلا، الّتي لا تمّحى مع توالي الأجيال.
نرى أنّ وجود حرف رويّ مشترك في نهاية السّطر الأوّل من كلّ مقطوعة وأتينا على حرف القاف كما في: “بيارق، صواعق، بنادق، خوارق حرائقْ مشانق…” وهنا برأينا يبعث على ضرورة الاطمئنان والتّحدّي ومواجهة غطرسة العدوّ.
وأمّا تنوّع الرويّ في كلّ مقطوعة، فقد أحدث ّزخمًا نفسيًّا انطلاقًا من وضعيّة الشّاعر وتأرجحه بين التّفاؤل والتّشاؤم، والانطلاق والاستسلام… لكنّ الأمل والرّجاء واستشراف الرّوح الآدميّة البطوليّة الحرّة الأبيّة الممتدّة على تاريخ نضاليّ طويل تمامًا كعشتار في نهوضها المتوالي، كلّ هذا جعل الشّاعر يحلّق في عالم مثاليّ أوتوبيّ، مستحضرًا أطفال شاتيلا. كلّ ذلك أفصح عن التوتّر المتناغم والمنسجم مع الموقف الشّعريّ، في ضوء استحضار مشهد شاتيلا في بداية كلّ مقطوعة.
المستوى المعجميّ:
يمكن النّظر إليه من زاويتين مختلفتين؛ الأولى تركيبيّة والثّانية دلاليّة. فالتّركيبيّة ترى في المعجم مكوّنًا أساسيًّا وجوهريًّا تتأسّس عليه بنية الجملة النّحويّة ويتحدّد معناها. فالنّظريّة النّحويّة الوظيفيّة المعجميّة، تقوم على اعتبار علاقة المعجم بالتّركيب، وعلى اعتبار العلاقة الدّلاليّة للمحمول بموضوعه. ومن ثمّ فقد احتلّ المحمول الّذي هو الفعل مركز الاهتمام، إذ كلّ من النّحويّ والمحلّل الأدبيّ يهتمّ بالجملة، ولكنّ النّحويّ يقف عندها والمحلّل الأدبيّ يتجاوزها إلى تحليل النّصّ بكامله، ليكشف أبعاده المختلفة ممّا يحتّم عليه الاستعانة بقنوات معرفيّة أخرى.
وأمّا الزّاوية الدّلاليّة الّتي يمكن أن ننظر منها إلى المستوى المعجميّ، فهي الطّريقة الأدبيّة “الّتي تصبح أمرًا مشروعًا مستمدًّا من المنهاجيّة الّتي تتحكّم فيه ومن الغايات الّتي يتوخّاها، والتّقنيّة الّتي تبنّاها هذا التّناول هي أنّه نظر إلى المعجم على أنّه
قائمة من الكلمات المنعزلة الّتي تتردّد بِنسب مختلفة أثناء نصّ معيّن. وكلّما تردّدت بعض الكلمات بنفسها أو بمرادفها، أو بتركيب يؤدّي معناها، كوّنت حقلًا أو حقولًا دلاليّة. وهكذا، ذلك أنّ لكلّ خطاب معجمه الخاصّ به؛ فللشّعر الصّوفيّ مثلًا معجمه، وللمدح معجمه، وللخمريّات معجمها. فالمعجم لهذا وسيلة للتّمييز بين أنواع الخطاب، وبين لغات الشّعراء والعصور”[10].
وظّف الشّاعر المعجم توظيفًا دلاليًّا، وانصهرت الحقول المعجميّة مكوّنة لغة شعريّة فنّيّة، فقد برز حقل العزيمة والمقاومة والثّورة الممزوجة بالألم والتّحدّي. جاءت التّراكيب التّالية في القصيدة: أطفال شاتيلا صواعق، هزّت شبابيك السّماء، يتصبّب النوّارُ منها أنجمًا، صاغوا حليب الأمّ قنبلةً، شقّوا تُويجَ البِدءِ…مزّقت ليل الكفنْ…مَرحى زمانَ مواكبِ الشّهداءِ.
دلّت العلامات والمفردات الموظّفة على نفسيّة الشّاعر الرّافضة للواقع المأزوم، وتمازجت معه علامات نصّيّة أخرى صوّرت التّضادّ وصنعت حلمَ الانبعاثِ والتّجدّد، وهاكم الألفاظ والتّعابير الدّالة على قصديّة الدّلالة وثيماتها المركزيّة؛ “دقّت طبول العُرسِ، واقتنصتْ من القمرِ التّوالدَ والضّياءْ، يتصبّبُ النوّارُ منها أنجمًا، أرسلوا لحنَ البقاءْ، وامتصّوا رحيقَ النّصرِ في أعراسنا، أهدابُهمْ شبّتْ شظايا، وعيونُهم أحلى هدايا، زيّنت جيدَ الوطنْ، يلجُ الرّؤى والأمنياتْ…”.
إذن؛ رسمت الحقول المعجميّة مسارات متقاطعة بين تصوّر لحالة الخوف والقتل والجرح الّذي لم يندمل، وبين حالة الرّغبة والانبعاث من جديد المتمثّلة بعنوان الدّيوان “هلّت من صبرا عشتار”، وفي ذلك رغبة وأمل في التجدّد والحبّ والقوّة والنّضال، ومحاولة في تناسي الجروح الماضية نهوضًا بالنّفس من براثن الانكسار باتّجاه تجديد النّفس وبناء الذّات الإنسانيّة، الّتي تجاهد الواقع وتحاول تغييره عبر القصيد الّذي يستشرف النّصر والخلود…
ج. المستوى التّركيبيّ:
نواصل مسارنا في مساءلة دلالات البنية السّطحيّة لنعرّج على مستووين؛ النّحويّ والبلاغيّ.
المستوى النّحويّ: تراوحت الجمل الاسميّة والفعليّة في المتن الشّعريّ، حيث رصدت الجمل الاسميّة حالة التّضحية والصّبر والثّبات على الموقف والتّعالي على الألم والجراح. مثل: أطفال شاتيلا صواعق، أطفال شاتيلا حرائق، أشبال شاتيلا مشانق، أهدابُهم شبّت شظايا، وعيونهم أحلى هَدايا، ودماؤهم سُكِبت مرايا، إنّ الشّعوب ستنهمر، إنّ الشّعوب ستنتصر…
أمّا الجمل الفعليّة فطغت بشكل كبير مخلّفةً حركة لبعث الأمل والتّعالي على الجراح والتفوّق الأرضيّ والحضاريّ على القاتلين للحياة وأعداء الإنسانيّة أيّ كانوا. فهذه أفعال ماضية ومضارعة كلّها تُعزّز هذه الرّؤية وتدحض الفكر الاستسلاميّ المنهزم مثل: هزّتْ، دقّتْ، واقتنصتْ، رفّتْ، يتصبّبُ، صاغوا، ألقَوها، أرسلوا، طافت، شقّوا، امتصّوا، مزّقتْ، زيّنتْ، لألأتْ، خلخَلتْ، يهوي، تُراهنُ…
إنّ الأفعال المضارعة بشكل خاصّ في التّركيب الشّعريّ تدلّ على الحال والاستقبال، ويرسم زمانيّة التّحوّل والانبعاث، وبه يبني الشّاعر القصّة من جديد، وليست مجرّد أداء جماليّ يتحكّم الشّاعر في صياغتها الزّمنيّة. ولعلّ من أبرز ظواهر اختراق الشّعر للمألوف ظاهرة الانزياح Deviation وهي انحراف الشّعر عن قواعد مقام الكلام، أو اختراق ضوابط المعيار أو المقياس. وهي ظاهرة أسلوبيّة تُظهر عبقريّة اللّغة، حيث تسمح بالابتعاد عن الاستعمال المألوف، فتوقعُ في نظام اللّغة اضطّرابًا يُصيغ نفسه انتظامًا جديدًا، “ذلك أنّ الانزياح إذا كان خطأً في الأصل، فإنّه يمكن إصلاحه بتأويله؛ فعندما يُحطّم الشّعر اللّغة العاديّة للوهلة الأولى، فإنّه يعيد بناءها بعد ذلك حسب جان كوهن، على مستوى أعلى”[11].
المستوى البلاغيّ:
تنوّعت الجملُ في النّصّ الشّعريّ بين خبريّة وإنشائيّة ضمن قالب استعاريّ ومجازيّ، فجاءت متضافرة مع الغرض الشّعريّ. فمن الاستعارة والمجاز في القصيدة؛ أطفال شاتيلا صواعق، هزّت شبابيك السّماء، واقتنصتْ من القمر التّوالد والضّياء، يتصبّبُ النّوارُ منها أنجمًا، صاغوا حليب الأُمّ قُنبلةً، زيّنتْ جيدَ الوطن، وَدماؤهُم سُكبتْ مرايا، لألأتْ، عرّتْ خفايا، خلخلتْ عرشَ الزّمنْ، بَرقتْ تُلحّنُ أغنياتِ الغيبِ…كلّ هذه التّعابير المجازيّة تحمل في مجازيّتها التّضحية وعودة الأمل والانبعاث والخصب، وتحدّي الواقع المرير والخروج من براثن القهر والانهيار والدّمار الّذي حطّ على أطفال شاتيلا وأهلها، وكأنّ شاتيلا عشتاروت تخرج من بين الحطام لتُعلن خلاصها وبعثها من جديد لتتصالح مع واقعها المهشّم، أسطورة واقعيّة حقيقيّة!
إنّ من شأن الاستعارات والمجازات أن تحمل المشهد لنا وتصوّره فعلًا حسّيًّا للخروج من دائرة الضّحيّة والواقع المرّ المخيّم على شاتيلا خلال الحرب، وصولًا إلى التحرّر والانعتاق من أغلال المحتلّ الّذي صبّ نيرانه على أطفال شاتيلا صبًّا، وبذلك كانت الاستعارات واصفة للمشهد، معبّرة عنه بشكل تصويريّ يغلب على الحواسّ بقوّته وبإيحائيّته المشهديّ البطوليّة. وقد وضع عبد القاهر الجرجانيّ مفهومين إجرائيّين للاستعارة، هما: الاشتراك في جنس الصّفة، والاشتراك في الحكم
والمقتضى. فعندما نقول “الخدّ وردة” فإنّ الخدّ والوردة يشتركان في صفة واحدة هي الاحمرار، وفي حكم واحد هو الحسّيّة.
وعندما يقول الشّاعر أحمد الرّيماوي: “أطفال شاتيلا صواعق”؛ فإنّ الأطفال والصّواعق يشتركان في صفة واحدة، هي القوّة والاندفاع والشّجاعة، وفي حكم الحاليّة المعنويّة. ولا شكّ أنّ الأدب تعبير بالصّور، وأنّ الشّعر تعبير عن اللّحظات الأقوى في الحياة، واللّحظات المفعمة بالطّاقة الشّعوريّة والانفعال المتوهّج. والصّورة الشّعريّة هي أعلى ما يرشّح الشّاعر للمجد؛ لأنّها جوهر الشّعر، فهي تحيل المجرّدات إلى امتثالات عينيّة أو سمعيّة تنفعل بها الحواسّ.
وقد رفض شعراء الحداثة استعارات الشّعر القديم وصوره الجاهزة؛ لأنّ آلاف الشّعراء تداولوا هذه (العملة) الّتي أصبحت رثّةً من كثرة الاستعمال، وانطفأ إيحاؤها، فبحثوا عن صور جديدة نابعة من تجاربهم ومعاناتهم، وممتزجة بالفكرة.
وقد كثرت الصّور في القصيدة هنا، وعلى الخصوص الصّور الّتي تصف أطفال شاتيلا، باعتبارهم محور القصيدة وبطلها، وكلّ الأحداث الأخرى ترفد شاتيلا وأطفالها البسلاء. ومن هذه الصّور:
أطفالُ شاتيلا بيارق
رفّتْ على قمم الأسى…
يتصبّبُ النّوارُ منها أنجمًا
فالأرضُ زمزمُها الدّماءْ
*****
أطفالُ شاتيلا بنادِقْ
صاغوا حليبَ الأُمِّ قنبلةً
*****
أطفالُ شاتيلا خوارقْ
أطفالُ شاتيلا حرائقْ
أطفالُ شاتيلا مشانقْ
أهدابُهم شبّتْ شظايا…
مزّقتْ ليلَ الكفنْ
وَعيونُهم أحلى هدايا
زيّنتْ جيدَ الوطنْ
وَدماؤهم سُكِبتْ مرايا…
لألأتْ عرّتْ خفايا…
خَلْخلتْ عرشَ الزّمنْ
بَرقتْ تُلحِّنُ أغنياتِ الغيبِ
تكتبُ أنّها طيرٌ وحيدُ السّربِ
من منقارهِ الحَدِّيِّ ينتزعُ الحياهْ…
*****
عبّر الشّاعرُ الرّيماوي عن انفعالاته وانحيازه التّامّ تجاه أطفال شاتيلا، الموتيف الأساسيّ والمُهيمن على محور القصيدة، وبالتّالي فإنّ الشّاعر جعل من أطفال شاتيلا عبر العصور البلاغيّة أسطورة عشتار؛ رمزّ التجدّد والخصوبة والتّضحية في سبيل بناء الإنسان والوطن، وإلّا كان التّناصّ ترفًا شكليًّا لا قيمة له، إذا لم يلتصق بمضمون النّصّ الشّعريّ وبماهيّة الفكرة المطروحة
هنا…
د. المستوى المعنويّ/ الدّلاليّ:
وهو العنصر الرّابع في تحليل الأبنية الأفقيّة للنّصّ الأدبيّ، ويفترض طرفين أساسيّين: مُرسِل وَمُتلقٍّ، فالمُرسلُ يبثّ رغبةً أو مقصدًا أوّليًّا، والمتلقّي يحلّل الرّسالة (مقصدًا ثانويًّا)، فإذا أجاب المتلقّي على الرّسالة فهذا مقصد ثلاثيّ. ومن المعلوم أنّ المُرسل يتفاعل مع المتلقّي، فليس هناك خطاب أُحاديّ الجانب موجّه إلى ذاته، بل نحتاج إلى المتلقّي ليعيد صياغة الخطاب
ويُحدّد وجهته. “فالمتلقّي لا يتلقّى النّصّ وهو صحيفة بيضاء، وإنّما لديه معلومات مختزنة في ذاكرته تسمح له بالتّدخّل في النّصّ، اعتمادًا على مبدأ النّظير. كما تسمح له بإعادة الرّأي في قياسه، فهو يتفاعل مع نفسه ومع غيره من النّصوص، حسب مقولتي الاختلاف والائتلاف، ووفقًا لمبدأ التّناصّ”[12].
وبمقاربة المقصديّة في نصّنا هذا، يتجلّى بأنّ الشّاعر يريد أن يصوّر أطفال شاتيلا تصويرًا حسّيًا ومعنويًّا عبر الصّور المجازيّة المشرّفة، ويمنحهم صورة إنسانيّة راقية تنأى بهم عن الأطفال العاديّين؛ كونهم ناضلوا وجاهدوا فاستحقّوا بذلك المجد والرّفعة وَغَدوا نموذجًا للبطولة في أرقى تجلّياتها، فهم نظير المثال للشّاعر الرّيماويّ، حظوا بنظرة شاعريّة متسامية سطّرها الشّاعر عبر قصيدته، وقد اتّجه الشّاعر إلى تقليد أطفال شاتيلا كلّ ما يجعلهم في مصافّ الشّهداء وصانعي المجد والكرامة لأمّتهم.
ومن هنا وصفهم بمنزلة ليس لنا أن نقول فيها إلّا أنّه قام بأسطرة واقعهم، لأنّ الصّور الجماليّة والمجازيّة نأتْ عن الطّبيعيّ والمألوف، إلى ما فوق الطّبيعيّ، بحيث جعلهم أطفالًا بهذه المزايا وحدهم، ليس من قبيل المبالغة اللّفظيّة أو المعنويّة، وإنّما لأنّه خلع عليهم مكانة عليّة سامقة ليس كالعاديّين من الأطفال.
لذا فقد أحدث النّصّ الشّعريّ الّذي بين أيدينا جملةً من التّساؤلات عبر مستوياته المدروسة؛ الصّوتيّة والمعجميّة والنّحويّة البلاغيّة، وهذا بدوره حفّزنا لمعرفة دلالات البنية النّصّيّة، ومكامن الرّمز في أطفال شاتيلا كما ذكرنا آنفًا. وهذا يجعل المتلقّي ينفعل ويبحث في الدّلالة عامّةً، وإن كانت لا تخفى على المتلقّي الفَطن والمدرك لأبعاد النّصّ الفكريّة والأيديولوجيّة الّتي انطلق عنها الشّاعر.
ثانيًا: المحور العموديّ
لا يكتفي النّقد السّيميائيّ بتحليل البنية الأفقيّة للنّصّ، وإنّما يلجأ أيضًا إلى تحليل البنية العموديّة للنّصّ، وذلك من خلال البحث عن المعنى التّواصليّ أو المعنى المصاحب، والتّفسير السّيميائيّ يستهدف هذا المعنى الّذي يختلف باختلاف القرّاء والنقّاد؛ فإنّ سيمياء الدّلالة وفق رولان بارت تمنح القارئ دورًا فعّالًا بوصفه مُنتجًا ثانيًا ليس مستهلكًا للنّصّ فحسب، بل هو منتج لمجموعة من النّصوص الأخرى الذّاتيّة والموضوعيّة في ذات النّصّ الأدبيّ المرصود. فلا تكتمل دلالات المستوى الأفقيّ إلّا بدراسة المستوى العموديّ والتّفاعل مع الشّيفرات النّصّيّة، على اعتبار أنّ النّصّ متغيّر ديناميّ. وهنا يمكن استكناه ثلاثة أنواع من البنى:
بنية التّشابه:
تتمثّل هذه البنية فيما أفاض الشّاعر من تعابير كهذه في وصف أطفال شاتيلا، وهذه بعض منها؛ أطفال شاتيلا صواعق، أشبال شاتيلا بيارق، أطفال شاتيلا بنادق، أشبال شاتيلا خوارق، أطفال شاتيلا حرائق، أشبال شاتيلا مشانق…هذه الموتيفات المبنويّة جاءت لتحرّكَ الواحد منّا حول ضرورة أن تنتصر هذه الأشبال الأطفال، وقد نوّع بين أشبال وأطفال، لإضفاء المبالغة مكلّلة بزخم العبارة لا سيّما وأنّ الشّاعر باعتقادنا يرسم لوحة إنسانيّة، اتّخذ الأطفال فيها قصب السّبق، في ضرورة تكليل هؤلاء ثوب الشّهادة والخلود دون تأتأة، لإضفاء هالة عظيمة، ويشكّلوا في النّهاية أسطورة واقعيّة تزداد وضوحًا وألقًا كلّ يوم.
وأمّا بنيةُ التّناقضِ: فتتمثّل في أطفال شاتيلا الواقع والحقيقة في مقابل العدوّ أو الوحش الّذي هدم أحلام هؤلاء الأشبال، فلم يتركهم ينعمون بأحلامهم ورؤاهم وأمنياتهم وكلّ طموحاتهم؛ من هنا يقع التّناقض بين الأطفال والعدوّ القاهر للإنسان وللحياة، الّذي احتلّ أرضهم وقتّل الأطفال وكلّ ما ينبض بالحياة، فهنا البطل قد انتفض من أجل المجموع، وكان على المجموع أن يسانده ويؤازره، ولكنّهم تركوا هذا الطّفل يواجه مصيره بنفسه، كأي بطل تراجيديّ يُساق إلى قدر محتوم، فالشّعوب لا تنتصر إلّا بالاتّحاد والتّكاتف حول المصلحة العامّة، وهذا ما يؤكّده الشّاعر في نهاية القصيدة “إنّ الشّعوب ستنهمر”، “إنّ الشّعوب ستنتصر”.
والواقع إنّ الشّاعر قد وصف أطفال شاتيلا وصفًا يعلو عن الواقع ويتجاوزه، وأحلّهم موقعًا أسطوريًّا؛ دلالة على أنّهم ضحّوا بأرواحهم وأجسادهم في سبيل الوطن وعيش الكرامة، في حين أنّ الطّرف الّذي من المفروض أن يمحق العدوّ ويُرديه صريعًا غائب، فقد أُلقي الحمل بكلكله على أطفال شاتيلا ليقارعوا الخصم بشكل جسور، دون تقاعس عن حماية الوطن والذّود عن الواقع العربيّ والمجد، ليحلّوا دار الكرامة، وهذا ما يفرزه النّصّ الشّعريّ…
“أشبالُ شاتيلا مشانق
أهدابُهم شبّتْ شظايا
مزّقتْ ليلَ الكَفنْ
وَعيونُهم أحلى هدايا
زيّنتْ جيدَ الوطنْ
وَدماؤهم سُكِبتْ مرايا..
لأْلأتْ، عرّتْ خفايا..
خلْخلتْ عرشَ الزّمنْ”
إنّنا نجد أنّ من جماليّات هذا النّصّ الشّعريّ تجسيد الاتّجاه البطوليّ، والّذي ينأى عن الدّونيّة والشّوفينيّة، بل يقارع الخصم بقوّته وَحججه؛ فالخصم مسؤول عمّا وقع في شاتيلا من مجزرة راح ضحيّتها المئات بل الآلاف، وبقي الأطفال ومن سار في ركابهم يقاومون التجهّم والغطرسة البعيدة عن الإنسانيّة، ممّن لا يعرفون للحقّ عنوانًا…وهنا نجد تلميحًا أو إشارة Allusion لوضعيّة الشّعوب الّتي تسمح للأيدي الظّلاميّة والهدّامة لتعيث فسادًا في حرب لا تعرف الرّحمة لقلوب الأطفال الّذين ساموهم سوء العذاب والموت والتّشريد، في حين أنّنا نُجيد مسح الجوخ ليس إلّا، في ظلّ النّزاع غير المتكافئ في حرب لا تعرف العدل.. ولات حين مناصّ.
وأمّا بنيةُ التوتّر والصّراع: فتتجلّى في الصّمود والبسالة/ السّلطة القاهرة والعدوّ المحتلّ.
ولقد صمد أطفال شاتيلا في وجه القهر والاحتلال، وأبوا أن ينهزموا أو يستسلموا. يقول الشّاعر: “وامتصّوا رحيقَ النّصرِ في أعراسنا”، “مرحى زمانَ مواكبِ الشّهداءِ… نحن الأوفياء”، “ودماؤهم سكبت مرايا”، “لألأتْ عرّت خفايا… خلخلتْ عرشَ الزّمن… طافتْ تُراهنُ آكلي لحمَ البشرْ”. كلّ ما يفعله أطفال شاتيلا، حتّى لا يهنوا ولا يحزنوا في معركة الوجود الأنطولوجيّة، وصراعهم مع القاهر الغاصب المحتلّ، تمخّض عن انتصار، بمعنى انتصار الضّعيف على القويّ، انتصار الإنسان البسيط الحامل كلّ إرادة في سبيل العيش الكريم على المتغطرس والسّفّاح، والّذي جاء لِيلغ في دماء الأبرياء، وقد جاء هذا النّصر، “في عصر ياسر…عصرِ ناصر…عصرِ أبطالٍ غُرَرْ، إنّ الشّعوبَ ستنتصِرْ”.
ويبقى أن نشير إلى جدليّة تتّضح عبر الأنساق اللّغويّة، وعبر مقاطع القصيدة الستّة، ففيها يحضر أطفال شاتيلا بكلّ قوّة، دلالةً على أنّهم البطل الفعليّ والجمعيّ على طول النّصّ؛ في الماضي والحاضر، والحضور والغياب، والعدم والوجود.
وربّما جدليّة الموت والحياة تُلقي بظلالها على حبكة النّصّ وتواتره في محطّاته المختلفة المتعاقبة؛ وهذه الجدليّة تبرز من خلال تجلّيها الثّيماتيّ في مواصلة أشبال شاتيلا طريقهم نحو الحياة، وإقرار حقّهم الشّرعيّ في العيش والوجود على أرضهم، ذلك الحقّ الّذي انتُزع منهم في اجتياح لبنان عام 1982، وحصل ما حصل من كوارث في مخيّمي صبرا وشاتيلا.
والشّاعر يُبرز دور أطفال شاتيلا في المقطع الأخير إيذانًا منه أنّهم ماضون على الطّريق لا يخافون في الله لومة لائم، يقول: “أهدابُهم شبّت شظايا، مزّقت ليل الكفن، وعيونهم أحلى هدايا زيّنت جيدَ الوطن، ودماؤهم سُكبتْ مرايا، برقت تُلحّنُ أُغنيات الغيب، تكتبُ أنّها طير وحيد السّربِ، من منقاره الحَدّيِّ ينتزعُ الحياة…”
يتّضح من وصف الشّاعر المسترسل لأطفال شاتيلا تماهيه وتورّطه مع المشهد بكلّ مشاعره وفطنته ووجوديّته، وهذا
ينسحب على مشهديّة القصيدة، فيبرز الشّاعر أطفال شاتيلا وهم يُسطّرون الحياة الذّهبيّة بدمائهم البريئة وليس معه من مُعين، فهم طير وحيد السّرب ينتزع الحياة انتزاعًا من منقاره الحادّ، ويلج الرّؤى والأمنيات. تتّضح من هنا إبلاغيّة الشّاعر وتعاطيه مع المشهد المتكرّر وكأنّه يريد تأكيد نبوءة يرجو تحقّقها مع أطفال شاتيلا القابضين على نفوسهم في إكسير الحياة، فهم الأسطورة الباقية على هذه الأرض الّتي تستحقّ الحياة، وبالتّالي يتّخذ الشّاعر من خلال الصّور الشّعريّة المتواترة المعادل الموضوعيّ لها، كونه يقف في صفّ الضّحايا والمظلومين في هذه الحالة الإنسانيّة ويتوق إلى تحقيق الخلاص والتطهّر من واقع آثمٍ لا يريد للسّلام والأمن أن يعمّ وأن يتحرّر الشّعب من سيزيفيّته المعذّبة!
وأطفال شاتيلا عنوان المرحلة القادمة لهذه الأمّة الّتي ارتضت التّقاعس في مرحلتها الرّاهنة؛ إذ لا وجود لمستقبل زاهر واعد، دون أن يكون لأشبال شاتيلا فصل الحقيقة والبرهان، متمثّلًا بهذا الوعي الكفاحيّ والخروج من الأزمة الرّاهنة الّتي تُحيق بالأمّة جمعاء.
خاتمة:
إنّ القراءة السّيميائيّة الدّلاليّة لقصيدة “أطفال شاتيلا”، رصدت نموذجًا شعريًّا، مأخوذًا من ديوان “هلّت من صبرا عشتار” للشّاعر أحمد الرّيماوي وأشارت إلى انفتاح النصّ على تأويلات عدّة، لكنّها تفتح المجال لأبواب أخرى من المقاربات، بين أنساق بنيويّة لغويّة استقرائيّة تضيف جديدًا لبنية النّصّ الشّعريّ. ومقاربتنا أسفرتْ عن ذلك:
عُدّ العنوانُ بوّابة الولوج لعبور النّصّ الشّعريّ، وفتح الذّهن على كثير من التّساؤلات والمحاور الجماليّة.
تكرّر “أطفال شاتيلا” في كلّ مقطع من القصيدة؛ فشكّلت جماليّةً فنّيةً، وفَتحت النّصّ على بعدٍ رمزيّ هادف.
امتاز النّصّ الشّعريّ بظاهرة التّكرار والتّضاد فشكّل جماليّة فنّيّة.
أطفال وأشبال شاتيلا جاءت تكرار بداية متزامنًا ملازمًا، كمحرّك لعمليّة القراءة السّيميائيّة من خلال تتبّع صور توظيفها.
عبّر الشّاعر عن الواقع المأزوم من خلال أطفال شاتيلا، بتشكيلها موتيفًا ذا أبعاد دلاليّة، أو بمثابة Motto كلازمة متكرّرة.
لم يحمل النّصّ صورة أسطوريّة، وإنّما وُظّفت في عنوان الدّيوان، ولم يُؤتَ بها في صلب النّصّ، على اعتبار أنّ أشبال شاتيلا هي رديف الأسطورة الحضاريّة المعاصرة، ومن خلالها أسقط الشّاعر معاناة الشّعب الفلسطينيّ، ورحلته في البحث عن الاستقلال والهويّة والأمان بصور جماليّة موحية.
_______________16/9/2023م
*المراجع:
– البطليوسي، عبد الله بن السيّد. الاقتضاب في شرح أدب الكتّاب، القسم الأوّل، بتحقيق الأستاذ مصطفى السقّا والدّكتور حامد عبد المجيد (القاهرة: دار الكتب المصريّة بالقاهرة، 1996).
– تودوروف، تزفيتان. نقد النّقد رواية تعلّم، ترجمة: سامي سويدان وليليان عويدان، ط2 (د.م.: دار الشّؤون الثّقافيّة العلميّة، 1996).
– الرّيماوي، أحمد. هلّت من صبرا عشتار، مجموعة شعريّة، ط1 (دمشق: دار الكرمل للنّشر والتّوزيع، 1984).
– طقّوس، بسّام. سيمياء العنوان، ط1 (الأردنّ- عمّان: وزارة الثّقافة، 2001).
– العرباوي، عزيز. “رولان بارت وسيميائيّات الصّورة الإشهاريّة”، مجلّة أيقونات، (الجزائر: مجموعة سيما للبحوث السّيميائيّة سيدي بلعباس)، ع 5 (2015)، ص 50-69.
– عزّام، محمّد. النّقد والدّلالة، نحو تحليل سيميائيّ للأدب (دمشق: وزارة الثّقافة، 1996).
– مبارك، حنون. دروس في السّيميائيّات، ط1 (المغرب: دار توبقال- الدّار البيضاء، 1987).
– محمّد، ماهر عبد القادر. فلسفة العلوم- المنطق الاستقرائيّ، ج1 (مصر: دار المعرفة الجامعيّة، 1998).
[1] . أحمد الرّيماوي؛ هلّت من صبرا عشتار، ط1 (دمشق: دار الكرمل للنّشر والتّوزيع، 1984)، ص 20-22. [2] . مبارك حنون؛ دروس في السّيميائيّات، ط1 (المغرب: دار توبقال- الدّار البيضاء، 1987)، ص 74. [3] . مبارك حنون، م.س.، ص 75. [4] . عزيز العرباوي؛ “رولان بارت وسيميائيّات الصّورة الإشهاريّة”، مجلّة أيقونات، (الجزائر: مجموعة سيما للبحوث السّيميائيّة سيدي بلعباس)، ع5
(2015)، ص 56.
[5] . ماهر عبد القادر محمّد، فلسفة العلوم-المنطق الاستقرائيّ، ج1 (مصر: دار المعرفة الجامعيّة، 1998)، ص 65. [6] . تزفيتان تودوروف، نقد النّقد رواية تعلّم، ترجمة: سامي سويدان وليليان عويدان، ط2 (د.م. دار الشّؤون الثّقافيّة العلميّة، 1996)، ص 25. [7] . محمّد عزّام، النّقد والدّلالة، نحو تحليل سيميائيّ للأدب (دمشق: وزارة الثّقافة، 1996)، ص 61. [8] . بسّام قطّوس، سيمياء العنوان، ط1 (الأردنّ- عمّان: وزارة الثّقافة، 2001)، ص 33. [9] . عبد الله بن السيّد البطليوسي، الاقتضاب في شرح أدب الكتّاب، القسم الأوّل، بتحقيق الأستاذ مصطفى السقّا والدّكتور حامد عبد المجيد (القاهرة: دار الكتب المصريّة بالقاهرة، 1996)، ص 137. [10] . محمّد عزّام، النّقد والدّلالة، م.س.، ص 135. [11] . م.س.، ص 139. [12] . محمّد عزّام، م.س.، ص 142- 143.