مـن أضـاء الـشـمـعـة – وسيلة أمين سامي

مـن أضـاء الـشـمـعـة ؟؟

وسيلة أمين سامي / اليمن

إقتربت أكثر وأنا مبهورة بتلك المساحة المليئة بالمشاتل المتراصة بأناقة بالغة وأكاد لاأصدق ماأرى .
كان يتحدث لمن حوله عن تلك النباتات التي زرعها :
ـ أما هذه فمن فصيلة الصبار ، وتسمى دمعة الطفل ويسهل زراعتها ومن مميزاتها أنها تغطي سطح المكان الذي تنمو فيه كأنها سجاد .
واسترسل في شرح صفات بعض النباتات والزهور
طرحت عليه سؤالا
التفت إلي ، لمحت في عينيه حزنا دفينا ، أطال النظر إلي كأنه فوجيء بوجودي
شعرت بشيء من الحرج
و بنبرة لطيفة لاتخلو من مرح قال :
ــ أما أنتِ فلاتسألي عن شيء سوى عن زهرة القرنفل
وأشار نحو زهرة رائعة الجمال .
سرَتَ في أعماقي ابتسامة فيها ريبة من لطفه .
نسيت للحظة أنني في ساحة سجن :
ــ أنت من زرع كل هذا ؟
ــ نعم مازلت أتنفس الجمال رغم أن الظلم قد تغول ولم يبقِ من نبض الروح إلا النزراليسير .
حزنت كثيرا إثر كلماته .
أردف قائلا:
ـ لو أن لك عينين تخترقان ملامحي لرأيت كرنفالا من الجمال ، لاتغرك بدلة السجن التي أرتديها .
خانتني العبارات ، لم أدر ماأقول أو كيف أطيب خاطره غير أني قلت وبسرعة :
ـ لنعد لزهرة القرنفل ، ماذا عنها ؟
كان رده أسرع :
ــ تشبهك تماما ..
تفاجأت برده ، يالجرأته قلت ذلك في سري وقد اعتراني شعور بهيج غامض ..
وشعرت بلهفة حقيقة لسماع سيرة تلك الزهرة .
إبتسم وعاد لزهوه شارحا باستفاضة ..
غاب صوته في ضجيج أسئلة تعالت في سري :
ـ ترى ما الذي جاء بك إلى هنا أيها المفعم بكل هذا الجمال ؟؟
أذهلني بهذا المخزون لديه عن كل نبته هنا .
لم أشعر بالوقت الذي انقضى سريعا
حتى تنبهت ليد صديقتي رئيسة المجموعة :
ــ أنت هنا وأنا أبحث عنك .
نظرت إليه ثم إلي وماكان منها إلا أن سحبتني جانبا :
ــ أتدري مع من تقفين ؟؟ إنه السجين أحمد محكوم عليه بالاعدام في تهمة قتل لم يبق له سوى أيام وسينفذ فيه الحكم
ــ ياإلهي ..
كان وقع ذاك الخبر صادما مؤلما ..
أخذت أسير مبتعدة عن المكان بخطوات بطيئة وكأن على كتفي حمل ثقيل .
ــ أحقا ياسلوى
ــ نعم نعم
ــ ماذا تعرفين عنه أيضا ؟
ــ تخرج من كلية الزراعة ، كان نابغة في مجال دراسته ، واعتبارا لحسن سيرته وسلوكه في السجن مدة الخمس سنوات استجابت إدراة السجن لطلبه وسمح له بممارسة هوايته بزراعة النباتات المختلفة وزودته بكل مايحتاج .. والغريب أنه مصر على أنه بريء من تهمة القتل المنسوبة إليه ، وأن هناك متنفذين هم من الصق به هذه التهمة .
ــ أنا أميل لتصديقه ياسلوى .
ــ ماذا ؟؟
ــ بعد إذنك أريد العودة إليه لدي بعض الأسئلة
ــ ليس الأن فقد انتهت فترة استراحة السجناء ، لاتنسي جئنا هنا لمهمة معينة لاتضيعي الوقت بأشياء جانبية .
ــ لم أنس ياعزيزتي نحن متطوعون للدفاع عن السجناء غير القادرين على توكيل محامين .
ــ سلوى هل يحق لي أن أتعاون مع هذا السجين ، هل بامكاني فتح قضيته مرة أخرى والدفاع عنه ؟؟

ــ لا لا فقضية هذا السجين قد استنفذت جميع الطرق القانونية ومرت بجميع مراحل التقاضي لم يبق سوى تنفيذ حكم الاعدام .

كان اللقاء التالي به مختلفا تماما ، كأنني أعرفه منذ زمن بعيد :
ــ أريد أن أساعدك ، أنا هنا من أجل ذلك ، أحقا أنت قاتل ؟
ــ هل تصدقيني لو قلت أنني بريء ؟؟
تنفست الصعداء ودون تفكير أجبته :
ــ أصدقك ، وأريد أن أعرف كل تفاصيل قضيتك .
ــ لماذا ، والغلبة للظلم في هذا الزمن ، لم أستسلم إلا بعد جهد مضن ، تخلى عني كل من يعرفني ، لم يصدقني أحد ، هناك من أحكم حولي التهمة ، القاتل حر طليق وأنا هنا أنتظر النهاية ، سأظل أقول أني بريء حيا وميتا هذا ماأستطيع فعله الٱن بعد أن استنفذت كل الطرق .

صمت ، ثم نظر إلي :
ــ لماذا أنت مؤمنة ببرائتي ؟
ــ شيء ما بداخلي يخبرني أنك صادق وأنا لايخطيء حدسي
ــ إنه صادق هذا الحدس ، وأصدقك القول
لقد يئست من الحياة قررت أن أنتظر الموت وأستقبله بكل أناقتي وبكل الجمال الذي يعتمره قلبي ، هذا قدري ، وخير لي أن ألقى ربي مظلوما لاظالما .
ــ لن تموت ظلما
ــ الموت لايخيفني بل صرنا صديقين حميمين أحدثه ويحدثني ، يتمثل لي طيفا لطيفا ودودا ، يصيبني بنوبات صفاء تغرقني في شغف علوي
فتسكن روحي وتهدأ نفسي .
تركت كلماته أثرا عميقا في نفسي قلت له :
ــ أريد أن أعرف عنك كل شيء ، هل تسمح بذلك ؟
ــ لماذا ؟
ــ لأثبت أن العدالة تصاب أحيانا بالعمى
ــ بل البشر يطغى عليهم الشر فتصاب انسانيتهم بالعمى ، أعدك بأنك ستعرفين عني كل شيء .

تكررت اللقاءات في ساحة السجن .
لاأدري لماذا بدر لي أن أعاتبه بلطف :
ــ لم تسألني عن اسمي ياأحمد
ــ لأني قد أسميتك في سري .
استلطفتُ ذلك كثيرا وانتابني فضول أي اسم اختاره لي ؟؟

ــ أحقا !! وأي اسم اخترته لي ؟؟
ــ ( أمل )

صعقت !! وانتابتني حالة من الذهول
حاولت أن أخفي ذلك فلم أستطع ، أشحتُ بوجهي حتى أخفي تعابيره .
ــ لم يعجبك الأسم ؟؟ لكني أراه مناسبا جدا ولن أناديك بغيره .
ــ أي شفافية وصفاء فيك ياأحمد ، لكن أصدقني القول هل سمعت أحدا هنا يناديني ؟ أنا فعلا اسمي أمل .

لأول مرة منذ رأيته لمحت على شفتيه ابتسامة تتبختر بكل حلل الصدق .
ساد الصمت ، ورب صوت لايقول شيئا
وبالصمت يقال الكثير .
وأخيرا تنهد قائلا :
ــ لقد أخرجت الدنيا من قلبي فوصلت لعالم ٱخر لايراه غيري ، ألم أقل لك أنني بت أنتظر الموت بكامل أناقتي ؟
ــ ياله من عالم !!

إنه إنسان مختلف ، لقد شدتني شخصيته بطريقة عجيبةوجعلته يحتل كل مساحات تفكيري .
غبت عنه لمشاغل أجبرتني على ذلك وتخلفت عن موعد أبرم بيننا لأسلمه بعضا من البذور التي طلبها مني
وحين التقيته اعتذرت له عن التأخير فكان رده :
ــ حضرت أم لم تحضري فحتى غيابك صار حضورا يتسيد الزمان والمكان
وحتى زهوري هنا تمتثل وتعلن الولاء الكامل لهذا الغياب – الحضور .
أمل عندما يكون المحبوب ( أملا ) يصير ( المحب ) روحا تذكي اتقاد الحنين تضمد أنفاس الحياة وإن كانت على مشارف الاحتضار ، الحب عطاء حتى في الغياب .

كنت أنصت له بكل جوارحي وكأنني أعيش حلما لاأود الاستيقاظ منه .. لكنه حلم كسير .

كلما شعرت بالحزن يداهمه كنت أحدثه عن الصبر ، مازلت أتذكر كلماته :
ــ لاتحدثيني عن الصبر قبل أن تذوقي حلو مرارته فربما تعثرت كلماتك قبل أن تصل قلب من اردتِ مواساته .
كنت أختلق الأعذار حتى أقف أمامه وأسمع كلماته التي تمدني بالقوة .
كنت أتمنى لو أن القوانين النافذة تعطيني فرصة أخرى في الدفاع عنه لكن لامجال وقد استنفذت جميع الطرق وفقا للتشريعات القانونية المعمول بها ، فلاجدوى من كل أمنياتي التي ذهبت أدراج الرياح .

مشاعر حائرة ، غريبة تجتاح كياني لم افقه كنهها
ينتشلني من حيرتي :
ــ عجبا لأمر القلوب ياأمل .
ــ ماذا عنها !!
ــ تحيل رماد العمر مدامة أنس وثير حتى الموت تجعله هدهدات حانية في مخاض الشروق .

نظر إلي معتذرا إذ أنه شعر أنه تجاوز بحديثه :
ــ لاتؤاخذيني ياأمل في هذياني أنسى نفسي أمامك
دعي شمسي الغاربة تنزف أقحوانا من شفق ، لاتجففي نزفها فلا يضير فجرك غروب شمس أيامي الراحلات .

لماذا ظهر في حياتي ٱخر أيامه ؟؟
وأخذت أردد : حقا عجبا لأمر القلوب .
كلما خلوت بنفسي تبكيني كلماته التي تواصل طرق أبواب ذاكرتي بلاتوقف .

طلب مني قراءة مذكراته
سرني ذلك وأشعرني بالقرب منه ، طلب مفتاح منزله من أمانات السجن وكتب لي العنوان :
ــ أريدك أن تذهبي اليوم لمنزلي لأخذ المذكرات ، لاتتأخري .
لم أفهم سر ذاك الإلحاح وذاك الحزن في عينيه وهو يسلمني المفتاح .
ولظرف طاريء لم أتمكن من الذهاب لمنزله بنفس اليوم كما أصر هو على ذلك
بل ذهبت عصر اليوم التالي
كان يوما غائما عندما توجهت بكل حماس نحو منزله .
أدرت المفتاح ، ثم دفعت الباب فأصدر صريرا يدل على أنه لم يفتح منذ وقت طويل ، استقبلتني رائحة غبار خانقة .
تقدمت بخطوات وجلة ، لكن سرعان ما سرت طمأنينة في كياني ، أغلقت الباب خلفي .
الرياح شديدة في الخارج ، تئن في شقوق النوافذ ، جابت نظراتي أرجاء المنزل الصغير ، تذكرت صوته وهو يدلني :
ــ هناك مكتبة صغيرة على يمين الصالة .
قادتني خطواتي إلى هناك .
هناك صورة لأحمد على الجدار
ــ يبدو أنها قديمة فلقد ملأ الشيب شعره الأن وطغى الحزن في عينيه السوداوين .

فتحت أحد أدراج المكتبة أخرجت المذكرات ، سحبت كرسي وجلست عليه ثم شرعت بتقليب تلك الأوراق
لفت نظري خطه الجميل :
ــ كل مافيك جميل ياأحمد .
هكذا حدثت نفسي وأنا مبهورة .

لم أشعر بالوقت الذي مر سريعا وأنا منهكمة بالقراءة أغوص عميقا في أغوار شخصية أحمد الفريدة لم أشعر إلا وقد بدأ الظلام يلف المكان .. تحسست الجدار وأنرت المصباح الكهربائي ، تبدد الظلام لكن إنقطع التيار فجأة كما هو معتاد .
شعرت بالخوف ، وبيد مرتجفة بحثت عن هاتفي في حقيبة يدي لأستعين باضاءته وقبل أن أخرجه سمعت فجأة صوت عود ثقاب يضيء الشمعة التي كانت منتصبة على الطاولة أمامي ..وفاحت رائحة لزهرة القرنفل .
فزعت ، خفق قلبي بقوة
كدت أصرخ من الرعب :
ــ يا إلهي أنا هنا وحدي ، فمن أضاءالشمعة ؟؟!!
رن هاتفي في الأثناء ، وددت أن أسمع صوتا ٱنس به في هذه الأجواء المرعبة
إنها سلوى :
ـٕـ سلوى أحتاجك بشدة ، لقد حدث أمامي شيئ غريب.
قلت ذلك وأنا أهم بمغادرة المكان بخطوات مرتجفة
ــ أمل أين أنت ؟ هل علمت بالخبر
ــ أي خبر ؟
ــ لقد تم تنفيذ حكم الاعدام بأحمد صباح اليوم .

صرخت ، خارت قواي ، وقعت على الأرض ، ثم تمالكت نفسي وأنا أنظر للشمعة المضاءة :
ــ عرفت الأن من أضاءالشمعة .. عرفت من أضاء الشمعة ..

ــ أي شمعة يا أمل !! هل أنت بخير ؟ هل صدمك الخبر فأصبحت تهذين ؟

ــ أنا بكامل قواي العقلية
وقد عرفت من أضاء الشمعة ، إنها الروح المظلومة تظل لعنة حية تقض مضجع الظالم .

عن Abdulrahman AlRimawi

شاهد أيضاً

الفقيد – د ميسون حنا

الفقيد قصة قصيرة بقلم د ميسون حنا للفقيد الرحمة، تبودلت العبارات التي تشيد بخصال الراحل، قال أحدهم أنه طيب القلب، نقي كالثلج، وآخر نعته بالكرم والسخاء، وآخر بالتسامح والصفح عن زلات الآخرين، نعتوه بطيب المعشر، واللطف، ودماثة الخلق،

تنويه تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: