لا ترهقوها ظلمًا
بقلم إيمان زيادة
استوقفتني امرأة تجلس في مقعدها في أحد أركان الحديقة وحيدة أراها تحمل هموم الدنيا على كاهليها، ومع ذلك أراها جميلة سألتها إن كانت لا تمانع إن جلست بقربها
ردت بابتسامة لطيفة: لا ابدا يا عزيزتي… بإمكانك الجلوس.. على الرحب والسعة.
استشفيت من حديثها وهندامها وجلستها أنها امرأة مثقفة، وأنها ذات خبرة في الحياة.
قلت لها: أنا صحفية…وهذه الحديقة قريبة من مكان عملي… اتي إليها يوميا تقريبا لألتمس لنفسي أفكارا من حياة الناس ومشاهداتي لأكتبها
سالتني: هل كتبتِ عن المرأة؟
أجبت: بالتأكيد
قالت: هل كتبت عن وحدة المرأة، وتهميشها.
اجبت: لا لم اكتب عن هذا المرأة
قالت: هلا سمعت مني إذا تجربتي.
رددت: بكل سرور
قالت: ان المرأة تصبح وحيدة ومهمشة إذا ولدت في مجتمع ذكوريّ، وأقصدُ هنا (الأسرة) فالوالدان يفضلان أن يكون المولود ذكرا، فإن كانت أنثى يتقبلانها مرغمين، ولولا العيب والخوف من القانون وربما من الله قليلا لدساها في التراب حية.
انا: الهذه الدرجة؟
قالت: بل وأكثر. تكبرُ الفتاة وهما يفضلان أخوتها الذكور عليها، ويمنحانهم حقّ تقويمها، فهي ولدت عوجاء لأنها أنثى، فنراهم يتنمرون عليها، ويشعرون بأفضليتهم عليها، وعليها خدمتهم دون تذمر، وما أسهل أن تشتم وتضرب من قبلهم دون أن يحاسبهم الوالدان وفوق ذلك يحرضانهم عليها باستمرار حتى لا تقوم لها قائمة تكبر الفتاة وهي تشعر بأنها غير مرغوب بها، وبأنها وحيدة، وبلا سند إنها أمام خيار واحد الان. أن تصبر على حالها حتى يأتي إليها العريس، لا بأس بهذا الخيار، فعائلتها تنتظره أيضا ليخلصهم منها.. أي عريس يزوجوه، وهو كثير عليها أيضا، المهم أن يتخلصوا منها بأي شكل، ثم عليها أن تدبر أمرها بعد ذلك… المهم ان لا ترجع إليهم ثانية إنهم لا يأبهون بمستقبلها كما لم يأبهوا بماضيها وحاضرها. تتزوج الفتاة رجلا يعلم أن لا مكانة لها في قلب وبيت أهلها… إنه يستشف ذلك من سهولة الحصول عليها… من قلة توصيتهم عليها… من قلة طلباتهم… من عدم حرصهم على حفظ حقوقها. تبدأ معاناة جديدة مع زوج يستغل ضعف موقفها مع الأهل… يخضعها تماما له… يهددها بأهلها إن لم يعجبه شيء منها وعند أي خلاف. تعيش انكسارا مضاعفا… وتصبر من مبدأ (نار الزوج ولا جنة الأهل) على الأقل هنا شخص واحد قاس عليها… أما هناك فهم كثر، ولن يرحموها. تكبر الفتاة وتصير أما… تحاول أن تتجنب ما عانت منه في حياتها… وعلى الرغم من الحب الكبير والعطاء الكبير الذي تمنحه لأولادها إلا أنها تفشل في خلق بيئة آمنة تماما لهم. إنها تكرر ما كان يحدث معها بشكل غير إرادي كضيق الخلق… فهي لا تحتمل الجدل والنقاش الفارغ… سريعة الغضب… تشكو من عدم تقدير أبنائها لها وحتى الذكور منهم. هي عدلت بين الإناث والذكور، لكن حتما هناك سبب لتطاولهم عليها. الدوامة التي تعيشها منذ أن وعيت في هذه الدنيا لم تنته بعد. أما الأخوة والأخوات فحكاية أخرى منذ الطفولة يشيع التنمر بينهم… ويستقوي الذكر على الفتاة…. ويرونها عبئا ثقيلا على أكتافهم…. على الرغم من حرصها على ألا تشاركهم مشاكلها… لأنها تعلم علم اليقين مكانتها عندهم…. فهم يتذمرون منها اذا زاروها مرة في السنة في العيد.. وزيارتهم تكون بلا مشاعر… حتى أن كبيرهم يدعو عليها وعلى أخواتها أمام زوجها وأبنائها بالموت ليرتاح من همها وعليها ان تضحك كأنها مزحة أي زيارة وأي عيد هذا ثم أنه عليها أن تتوقع عدم زيارتهم… وعليها أن لا تعاتب…. فهم رجال يحكمهم مزاجهم وظروفهم. وإن حدثت مشكلة معها لا سمح الله فهم أول أعدائها إن لم يكونوا الوحيدين أعداءها. وأول من يتخلى عنها ويحملوها الخطأ بأنها تستحق ما يحدث لها ينكرون صبرها وعطاءها، ينكرون علمها وكفاحها في وظيفتها…. ينكرون تميزها ومواهبها يصبحون السوط والجلاد، والسيف والسياف
أنا: لماذا كل هذا الكره والحقد عليها؟
قالت: دعيني أكمل، ثم علقي بما شئت.
أنا: تفضلي
قالت: يقاطعونها ويتركونها تواجه كل شيء وحدها على كل حال هي غير مصدومة هي تتوقع منهم كل ذلك تواجه الموقف بصمت لأنها تعلم أن قلوبهم القاسية لا ينفع معها لوم أو عتاب أما الأخوات فهن غير بعيدات عن هذا الجو المسموم بنار الحقد والكراهية عانين ما تعانيه لكن ما يثير الدهشة أنهن لا يفضن رحمة ومحبة على بعضهن فهن دائمات الغيبة والنميمة على بعضهن يعاملن بعضهن بشكل سطحي جدا كالغرباء تنقطع الاتصالات بينهن شهورا وربما سنوات يجتمعن في بعض المناسبات وليست كلها يتراقصن قليلا… ويأخذن بعض الصور التذكارية معا…..ويعدن غريبات من جديد أحيانا يكدن لبعضهن غيرة وأحيانا يساعدن بعضهن محبة هن مجاهدات في بيوتهن ينشئن أولادهن على تهميش الخالة فلا حق لها عليها أو عليهم كل هذا التمزق الذي تعانيه هذه الفئة من النساء في مجتمعنا إلام سيفضي؟ هذا دوركم كصحافة.
أنا: هذه مشاكل عائلية، لا دخل لنا بها.
قالت: مخطئة يا عزيزتي، عليكم إثارة هذه المواضيع، وفضح هذه السلوكات كم امرأة وفتاة راحت ضحية هذا الأسلوب في التربية كم امرأة عانت من التهميش والكبت حتى ماتت وحيدة مقهورة الأرحام تتقطع بسبب هذا التمييز، والأسر تتفكك… والأطفال يضيعون… والحقوق تضيع لأنها لا تستطيع تحمل المزيد من الضغط لتطالب بحقها وحق أولادها… فهي منهكة من شدة الظلم والوحدة وليست كل النساء قويات ويتحملن كل هذا الكبت…علينا أن نعي أهمية التوعية.
لاحظت دهشتي من اتساع حدقتي وانحباس دمعتي في محجر عيني
سالتها: لم لم تكتبي انت عن كل ذلك؟
قالت: حاولت فحاربوني، اتهموني بالتحرر والفجور والعقوق لأنني واحدة منهن. اكتبي أنت من أجلي ومن أجل المهمشات… فسيرحبون بما تكتبين….
وعدتها أن أفعل وطلبت منها ان أراها ثانية فقالت : لا عليك يا عزيزتي… إن كان لنا في العمر بقية فسالقاك هنا وإن لم تجديني سأكون رحلت إلى الله لأشكوه كل ما أصابني من ظلمهم.
قامت تمشي معي إلى بوابة الحديقة بابتسامة جميلة تخفي خلفها سحابات من الدمع الحزين، وبطولها الممشوق وخطواتها الواثقة وهمست لي: كم تمنيت أن أكون صحفية أو مذيعة، لكنهم كانوا عائقا أمام كل خطواتي…. وما نجاحي اليسير الا بفضل الله ثم لعنادي بأن أكون…. وكنت لكن وحيدة صدق الشاعر إذ قال: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ودعتها وكنت أحسّ باني لن أراها ثانية شكرتني على تحملي فضفضتها… لكن حديثها في الحقيقة كان نزفا وليس فضفضة تابعت طريقي وانا أتساءل: كيف استطاعت أن تحتمل كل هذا الظلم وهذه القسوة؟ يا لها من جبارة
بعد يومين كتبت مقالا بعنوان (لا ترهقوها ظلما) وذهبت إلى الحديقة أحمل نسخة من الصحيفة لها…. فلم أجدها. جلست على المقعد الذي جمعنا ورحت أتصفح مواقع الأخبار فاجأني خبر وفاة اديبة معروفة وحيدة في منزلها منذ يومين. والصورة أخبرتني انها نفس المرأة التي قابلتها وأجلس مكانها الان.