كما وُرد في سيرة ناجي العلي “أكلهُ الذئب
حوار بين ناجي العلي وغسّان كنفاني في إحدى فعاليات مخيّم عين الحلوة
“غسان: شو اللي خلاك ترسم الخيمة على شكل هرم.. يعني شو علاقة الخيمة بالهرم؟
فردّ العلي وهو يشير بيديه مستعينًا بهما على شرح ما سيقول:
فيه علاقات مش بس علاقة واحدة. شوف يا سيدي. أولاً إحنا الفلسطينيين منتميّز بالخيمة زي ما المصريين بيتميزوا بالهرم. يعني لما تقول خيمة بتقول فلسطين، ولما بتقول هرم بتقول مصر.. يعني هما خِتْمهم الهرم وإحنا خِتْمنا الخيمة.. مزبوط هيك؟
وهزّ كنفاني رأسه علامة القبول، وتابع العلي يقول:
ثانياً، الهرم والخيمة مكان للسكن إلهم وإلنا.. بس هُمه بيسكنوها في موت الحياة يعني علامة للخلود، وإحنا بنسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة، وللخلود كمان، وحتى تظل قضيتنا حمرة متل الجمرة. ويوم ما إنضُبْ هالخيمة ونلفها، منضُبْ فلسطين وبنلفها كمان.. صح هيك، ولا لأ؟
غسان: هاي فلسفة كبيرة يا ناجي، منين جبتها؟
فردّ العلي وهو يهتز ابتهاجاً:
والله من هالدنيا.. هالدنيا علّمتنا اشياء كثيرة. هو قليل اللي شفناه واللي خبرناه؟ عليم الله يا زلمة اللي شفناه بيعلّم العالم كله،مش بس إحنا!
وكان كنفاني يضع ذقنه الدقيقة في راحته اليمنى، ويغطي فمه بباقي يده، وينصت بانتباه، وقد وقف وقفة نخلة مائلة، ووقف أمامه العلي مقوّس الظهر، والتفّ حولهما رجال وبنات وأطفال من المخيم ومجموعة من المشاركين برسوماتهم ذوي سحنات محفورة بعذاب الشتات.
وتابع العلي كلامه بثقة:
ثالثاً: العلاقة بين الهرم والمخيم، يعني ختمنا وختمهم، جاية من إنو مفيش تحرير لفلسطين بدون مصر، يعني بصراحة.. لا نصر من دون مصر!
فرد عليه كنفاني بابتهاج شديد وفرح غامر، وقد مال بجسمه أكثر ناحية العلي، وكأنه يود أن يهمس في أذنه:
وبشوفك سياسي كمان؟
العلي: ما قلنالك يا زلمة، هالدنيا علمتنا كل إشي. عليم الله هذا المخيم لحاله فيه عِلْم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكوا عنها ببيروت!
وضحكوا جميعاً، ثم تابع العلي يقول مبتهجاً وبحماس بالغ:
بعدين يا أستاذ، العلاقة بين الخيمة والهرم إنهم مش ممكن يكونوا إلا في الخلا.. وواضحين تحت السما مباشرة، متل الشجر. هلاّ قول لي، في حدا بيبني خيمة جوّه بيت، ولا هرم جوه بيت، ولا بيزرع شجرة تحت سقيفة؟
وردّ كنفاني بحبور غامر:
وبعدين معاك إنت ما خليت إلنا إشي نقوله، على مهلك يا زلمة، خلينا نحكي شوي!
وردّ العلي باسمًا وعيناه تلتمعان بوهج الحقيقة:
واحدة وبس.. ما إنت إللي سألت يا عمي، وبدنا نجاوبك ع المزبوط!
وصمت برهة، وأخذ نفساً وقال بحزم:
العلاقة الأخيرة، هي العلاقة بين حجر الهرم وقماش الخيمة!
ولم يفهم كنفاني قصد العلي، فسأله باستحياء وبصوت خافت:
شو يعني.. مش فاهم؟
فرد العلي بثقة، وكأنه يختم على وثيقة أمامه:
ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر!
وصَفَق قبضة يده اليمنى ببطن راحته اليسرى علامة الختم، وانحنى، وإلتقط حجرًا من أرض الخيمة، وقال بجدّ وهو يشدّ عضلات وجهه، ويقطب جبينه:
وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة.. لا من قصور ولا من علالي، وسلامة تسلمك!
وصفّق له كل من سمعه وكان حوله، وهتفوا بحياة فلسطين والحجر.
وتعانق كنفاني والعلي، وتبادلا الأنفاس، وبديا من الخلف وكأنّهما ظهر واحد وكتف واحد.”
8/7/1972