“الثلاثاء الحمراء” هي قصيدة كتبها الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، في وصف إعدام ملهبي ثورة البراق (1929)، على يد سلطات الانتداب البريطاني، في 17 حزيران 1930: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير ..
ويقول فيها:
لمَّــا تَعَرَّضَ نَجْمُـك المنحوسُ
وترَّنحت بعُرى الحبالِ رؤوسُ
ناح الأَذانُ وأعولَ النــاقوسُ
فالليل أكدرُ، والنَّهارُ عَبوسُ
طَفِقَتْ تثورُ عواصفُ وعــواطفُ
والموتُ حيناً طائفُ أو خـاطفُ
والمِعْولُ الأَبديّ يُمْعِن في الثرى
لِيردَّهـمْ في قلبِهــا المتحـجِّرِ
* * *
يومٌ أطــلَّ على العصور الخاليَه
ودعا : “أمرَّ على الورى أمثاليَهْ ؟ “
فأجابَهُ يومٌ : ” أجلْ أنا روايَه
لمحــاكم التَّفتيش، تلكَ الباغِيَه
ولقــد شهدتُ عجائباً وغرائباً
لكنَّ فيــكَ مصـائباً ونوائباً
لم ألْقَ أشباهاً لهـا في جورْهِا
فاسأل سواي وكم بها مِنْ منكَرِ “
* * *
وإذا بيــومٍ راسفٍ بقيودِهِ
فأجابَ، والتاريخُ بعضُ شهودهِ :
” أنظر إلى بيضِ الرَّقيق وسودِهِ
مَنْ شاءَ كانوا مُلكَهُ بنقــودِهِ
بشرٌ يُباعُ ويُشترى فتحررَّا
ومشى الزَّمانُ القهقرى فيما أرى …
فسمعتُ مَنْ منعَ الرَّقيق وبَيْعَـهُ
نادى على الأَحرارِ يا مَنْ يشترى “
وإذا بيـومٍ حالكِ الجِلبْـابِ
مُتَرّنـحٍ من نَشْوةٍ الأَوْصابِ
فأجابَ : ” كلاّ ، دون ما بكَ ما بي
أنا في رُبى (عالية) ضاع شبابي
وشهدتُ للسفَّاح ما أبكى دما
ويلٌ له ما أظلما لكنما …
لم ألْقَ مِثْلَكَ طالعاً في روعـةٍ
فاذهبْ لعلَّكَ أنتَ يَومُ المحشرِ “
* * *
(اليومُ) تُنكرهُ اللَّيالي الغـابره
وتظلّ تَرْمقُه بعينٍ حــائره
عجباً لأَحكام القضاءِ الجــائرهْ
فأخفُّها أمثالُ ظُلمٍ سائـره
وطن يسيرُ إلى الفناءْ بلا رجاءْ
والداءُ ليس لهُ دواءْ إلاّ الإباءْ
إنَّ الإباءُ مناعةٌ ، إن تَشْتَـمِلْ
نفسٌ عليه تَمُتْ ولمَّا تُقهرِ
* * *
الكلُّ يرجو أن يُبكِّرَ عَفْـوُهُ
نَدْعو له ألاّ يُكَدَّرَ صفوُهُ ..!
إنْ كان هذا عطفُهُ وحُنُوُّهُ …
عاشتْ جلالَتُهُ وعاشَ سُموّهُ ..!
حَمَلَ البريدُ مُفصِّلا ما أُجملا
هلاَّ اكتفيتَ توسُّلا وتسوُّلا
والموتُ في أخــذِ الكلامِ وردِّهِ
فخذِ الحياةَ عن الطَّريقِ الأَقصرِ
* * *
ضاق البريدُ ومـا تغيَّرَ حالُ
والذّلّ بين سطورِنـا أشكـالُ
خُسْرانُنــا الأَرواح ، والأَموالُ
وكرامةٌ – يا حسرتا – أسمالُ
أوَ تُبصرون وتسألونْ ماذا يكونْ ؟!
إنَّ الخداعَ له فنونْ مِثْلَ الجنونْ
هيهاتَ ، فالنفسُ الذليلةُ لو غَدَتْ
مخلوقةً من أعينٍ لم تُبْصرِ!
* * *
أنَّى لشاكٍ صوتُه أنْ يُسْمَـعا
أنَّى لباكٍ دمعهُ أنْ يَنفعـا
صخرٌ أحسَّ رجاءَنا فتصدَّعا
وأتى الرجاءُ قلوبَهم فتقطَّعا. .
لا تعجبوا، فمن الصخورْ نبعٌ يفورْ
ولهم قــلوبٌ كالقبور بلا شعورْ
لا تلتمسْ يوماً رجاءً عندَ مَنْ
جرَّبْتَهُ فوجدتَهُ لم يَشْعُرِ
* * *
الساعات الثلاث
الساعة الأولى
أنا ساعةُ النفسِ الأبيَّـه الفضـلُ لي بالأسبقيَّه
أنا بِكْرُ ساعـات ثلاثٍ كلها رمزُ الحميَّه
بِنْتُ القضيَّةِ إنَّ لي أثراً جليلاً في القضيَّـه
أَثرَ السّيوف المشْرَفيّــَةِ والرماحِ الزاغبـيَّه
أودعتُ في مُهجِ الشبيبةِ نفْحــةَ الرّوح الوفـيَّه
لا بــدَّ من يوم لهم يَسْقي العدا كأسَ المنيَّـه
قسماً بروح (فؤاد) تصعدُ من جوانـحِهِ زكيـه
تأتي السواءَ حفيــةً فتحلّ جنَّتَها العـليّــَه
ما نـال مرتبـةَ الخلودِ بغيْرِ تضحيــةٍ رضيـه
عاشتْ نفوسٌ في سبيلِ بلادِهـا ذهبتْ ضحيَّة
الساعة الثانية
أنا ساعةُ الرجل العتيدِ أنا ساعةُ البأسِ الشـديدِ
أنا ساعـةُ الموت المشـرِّفِ كلَّ ذي فعلٍ مجيدٍ
بطَلي يُحطِّمُ قيدَهُ – رمزاً لتحطـيم القيـودِ
زاحمتُ مَنْ قَبْلي لأَسبِقَها إلى شَرَفِ الخـلودِ
وقَدَحْتُ في مُهَجِ الشبابِ شرارةَ العزمِ الوطيدِ
هيهاتَ يُخدَعُ بالوعودِ ، وأن يُخـدَّرَ بالعهودِ
قسماً بروحِ (محمد) : تَلْقى الردى حُلْوَ الورودِ
قسماً بأُمِّكَ عنـد موتِكَ وهي تهتفَ بالنَّشيدِ
وترى العزاءَ عَنْ ابنِها في صيتِهِ الحسنِ البعيدِ
مــا نال مَنْ خدمَ البلادَ أَجلَّ من أجْرِ الشهيدِ
الساعة الثالثة
أنا ساعةُ الرّجل الصَّبور أنا ساعةُ القلبِ الكبيرِ
رمزُ الثَّباتِ إلى النهاية في الخـطيرِ من الأُمور
بطَلي أشدّ على لقـاءِ الموتِ من صُمِّ الصّخورِ
جذلان يرتقبُ الردى فاعجبْ لموتٍ في سرورِ
يَلْقى الإله ( مُخَضَّبَ الكفَّيْن ) في يومِ النّشورِ
صَبْرُ الشبابِ على المصابِ وديعتي ملءُ الصّدورِ
أنْذرتُ أعـداءَ البـلادِ بشـرّ ِ يومٍ مُستطـيرٍ
قسماً بروحك يا ( عطاء ) وجنَّةِ الملِكِ القديرِ
وصغارِكَ الأشبالِ تبكي اللَّيثَ بالدّمعِ الغزيرِ
ما أنقذَ الوطنَ المفدَّى غيرُ صبَّارٍ جَسورٍ
الخاتمة
الأبطال الثلاثة
أجسادهُم في تربة الأَوطانِ
أرواحُهُم في جنَّةِ الرّضْوانِ
وهناكَ لا شكوى من الطغيانِ
وهناك فيْضُ العفْوِ والغفرانِ
لا ترْجُ عفواً من سواهْ هو الإلهْ
وهوَ الذي ملكَتْ يداهْ كلَّ جاهْ
جَبَرُوتُه فوقُ الذين يغرّهْم
جَبَرُوتُهمْ في برِّهمْ والأَبحرِ