مقدمة كتاب سديم ألمي وقلمي لجهاد القراعين
بقلم الكاتبة دينا العزة
في زمنٍ تتناسل فيه الأقلام حدّ الحداثة، وتتناهب الحرفيّة حتى تكاد تفقد نقاءها الأول، يجيء هذا الكتاب مثل ندفة ضوء تعبر تعاريج الروح لتنجو من أشباح الظلام، لا تستأذن بابًا ولا تستجدي نافذة، فتطرق القلب قاصدة نبضه، فيتعلم أن الخريف حين يمرّ على شجرة مُتعبة تأتيه حكمة التعرّي دون وجل.
إن ماكتبته الأديبة جهاد قراعين لا يُقرأ فقط بل يُستنشق كـ رائحة الأرض التي تتلهف لمطر يغمرها بالدفء بعد قسوة الصيف، فالحروف هنا تصاغ ليُصغى إليها كما يُصغى في محاولة نجاة من غبار الأيام.
هنا، في صفحات (سديم… ألمي وقلمي)، تتقاطع الأنوثة مع البطولة، واللغة مع الوجدان، والمشاعر مع الغياب، في مساحة لا يطغى الواقع أو الحلم فيها على الآخر؛ كأن الفكرة تمشي على حدّ السكين: ينزف حينًا، ويرقّ حينًا، ويتوهج دائمًا ورغم مخاطر السقوط ما بين الحدين تبقى الكاتبة مثيرة لجدل السطور حين تنهي النص باكتمال واضح الرؤى.
الكاتبة لا تكتب من باب الترف، بل من قسوة ألجأتها لصلاة في محراب زوّراه متعبون، ومن عطشٍ غزا جسد الكلمات أراد غيمة توشك أن تهطل ولا تهطل.
فالوجع هنا ليس حالة عابرة، بل حرفة تُمارَس، وتجلٍّ يتشكّل، ومِرآة تُصقل ببطء وصبر كي تعكس ما هو أعمق من الملامح: تعكس تصدّعات القلب، وانكسارات الروح، وارتفاعات الحنين المفاجئة.
يجد القارئ نفسه أمام امرأة تلتحف أسارير الحياة بقدر ما تلسعها نيرانها، تكتب رواية قلب واحد لكنها مرآة لآلاف القلوب فتستعير أنفاس الكون بحكمة ورصانة لتهب نصوصها روحا لا تستلم وتستمتع بتفاصيلها الصغيرة ـ كفنجان قهوة مُرتجف، أو ورقة شجر تهوي، أو عصفورة تستند إلى سلك الكهرباء ـ إلى رموز نابضة، تحمل من الدلالات أكثر مما تحتمله اللغة الظاهرة فعمق القصد ما بين الحروف يتوارى بين الفكرة وفراسة قارئها.
الكتابة هنا ليست وصفًا، بل تجسيدا لمشاهد داخلية تتلوّن بأطياف الفصول:
– من خريف يُساقط أوراق الصبر قبل أوراق الشجر،
– إلى شتاء تُعرّي فيه الحقيقةُ الوجوهَ والمشاعر،
– إلى ربيع الحب حين يأتي على كفّ دهشة،
– وصيفٍ يشتعل فيه الجسد بالحنين قبل الشمس.
ولعلّ أثمن ما في هذه الرحلة السرديّة أنّها لا تتصنع فلا تُخفي هشاشتها ولا تتبرأ من ضعفها، بل تتّخذه عبوراً مثيراً إلى القوة؛ ولأنها جهاد المفعمة بالتحدي وصاحبة قضية، الفدائية في جعل الفقد بداية، واللقاء المؤجل إيمان ينتهي باليقين، أما الحبّ فـ رئتيه تتنفّس صوراً وخيالاً ودهشة لرواية لا تبقى جامدة محفوظة في الذاكرة.
هذا الكتاب ليس مجرد سرد لعلاقة أو لذكرى أو لشغف عابر، بل هو مصنع للمشاعر الإنسانية في ذرواتها:
فيه يلتقي نور الفجر بظلال الليل، وتلتقي الرجولة الأسطورية بأنوثة شديدة الشفافية، ويتشابك الألم بالرجاء، حتى يصبح القارئ أمام شاشة عرض من خلال النص مستمتعا بما يحمل من لغة واستعارات متمكنة من رسم الحرف على مقاس الفكرة والمعنى بأبهى حلّة .
إنه كتاب يكتب تاريخًا خفيًّا للقلب:
تاريخه حين يُخدع،
حين ينهض،
حين يعشق،
حين ينكسر،
وحين يختار أن يظلّ واقفًا رغم الطوفان الذي قد ينهي حقبة من الأوجاع والتقلبات لينهض بحقبة أخرى ذات قوة أخرى ومجابهة مختلفة.
ثم جعلت الكاتبة في النصوص حضور كثيف للطبيعة (للشجر، والمطر، والريح، والبحر، والثلج، والليل) وكأنها أبطال الحدث ناطقة باسم المعنى وموازية للأرواح لتسندها إذا تداعى لها الجسد.
أما اللغة، فهي البطولة التي يصبو إليها الكاتب عادة، وهنا في هذا الإنجاز الأدبي كانت لغة مُشغولة بعناية فائقة نسيجها العاشقون، ومغموسة بألوان التجربة الإنسانية، تتقافز حيناً كـ ريم شاردة من فك مفترس فتعلو صرخات الأنفاس المكلومة من شدة المطاردة، وحينًا تصبح معزوفة أنغامها تعزف على قيثارة بأنامل تنساب منها الرقّة، وتشتعل حينًا كث امرأة أنضجتها النيران حين التهمتها والخطوب في موقد ثأر الرماد به من جمره.
ما بين حواراتٍ تشبه المناجاة، ومشاهدَ تشتعل بالحب، واعترافاتٍ تتسلل ما بين المراوغة والوضوح، ونبرةٍ مثيرة للعاطفة تهمس على مسمع الجرح ليبرأ، تتشكّل روح الكتاب: روح امرأة تكتب نفسها لتبطل سحر القيد الواهم وتنجو من زنازين الذات المقهورة، تكتب لتنجو وتستبصر العالم لتفهمه، وتكتب القارئ لتوقظه من سباته.
إن هذا العمل ليس مجرد نصوص، بل مسيرة وجدان تمتد بين ضفّتي الذاكرة والخيال، تجد أنه لابدّ للإنسان أن يجد هوية جديدة دائما ثابتة البوصله: قلبه، متغيرة التفاصيل، يستطيع ان يقلب الطاولة مهما كانت الأوراق التي اعتلتها، يستطيع أن يبرم اتفاقات عدّة ويكتشف قدراته في تغير مسار حياته لحظة محبة طافية فوق صخب الحياة.
ولعلّ هذا الكتاب يقدّم، من حيث لا يقصد، درسًا بليغًا:
إنّ الكتابة هي شكل آخر من أشكال النجاة، وإنّ القلم حين يكتب الألم يتحوّل إلى جسرٍ يعيد للروح اتزانها، وللعين بريقها، وللقلب إيقاعه الطبيعي بعد عاصفة طويلة.
فإلى القارئ الذي سيفتح هذه الصفحات:
ادخل إليها كما يدخل عابر إلى معبد قديم؛ يحاول أن يستشعر أرواح مَن عبروا العزلة لينجو من إثم أو يلوذوا بالدعاء،
أترك ضجيج العالم خلفك، وأنصت للكلمات وهي تهبك همس التجلي، ودع هذا السديم يحملك إلى حيث الصدق…
ولا يبقى إلا القلب حين يُجرَّد من كل شيء سوى الحب

جريدة وإذاعة سقيفة المواسم الثقافية ثقافية ، اجتماعية ، فنية
