أقلته سيارة الأجرة باتجاه المدينة وسط ازدحام شديد ياالله إنّها ذات الشوارع ذات المساحات لم تمت بغداد كما تصورت ما زال نبضها قوياً متسارعاً مدينة ترفو بخيط الحكايات ثوب ضوء خرقته العتمة وتخيط على صفحته أزراراً منيرة كيما تصنع درباً جديداً تخطوه أقدام المسافرين دون أن تعفو آثاره الريح
لقد تعامد الحزن على قلبه، والليل يهبط ماسحاً لطخات النور المتراشقة على الأفق، حروب وشرور تعيد رسم خرائط الأرواح المكتظة بالغائبين، ينشب القدر شوكته في القطعة الأكثر رقة منها في حبة القلب فيئزها القلق ليغمض عينيه على لذعات دمعة لها وقع جمرة.
امتلأت عيناه بالدموع لم يخرجه مما أوشك أن يغرقه سوى حركة التفاف سريعة من السائق أعادت له وعيه ليعرف الى أي درجة ما زال متمسكاً بالحياة لم يزده لفح الهواء المتدفق من النافذة إلا وهجاً يؤلب المشاعر من جديد.
كان النهار مجمرة هبت رياحها لتطيح بآخر رمق للنسمات الرائقة
سنوات شمطاء متغضنة متشققة الملامح تلك التي مرت عليها وكأنما تلتهم معها أعماراً كيما تعيد زمانها المنصرم
حين غادرها كان شاباً بما يكفي لينسى فيعشق غيرها ولكن يبدو أن حب بغداد يورث في الجينات ينتقل من جيل إلى جيل شيء أعمق من السكن والمكان يربطه بها إنها الجذور وتراتيل جده الوقور قبيل الفجر :
كم داست الحرب الأولى تحت وطأتها من أبرياء لم تكن لهم تهمة سوى أن سماء بغداد أظلتهم لا شأن لهم بالسياسة يتابعونها دون ولوج تفاصيلها، حرب لها أنياب وأضراس حادة بانت وحشيتها في التهام الصالح قبل الطالح، ظلت الأرواح تتلاحق في الصعود في طبقات السماء كرداء موصول مع آخر قطرة تخرج من فيّ سقاء الحياة، لم تستطع الأمهات أن يغمضن أعينهن ففي مد أبصارهن كانت بغداد تلفظ إحدى أرواحها السبعة على أعتاب حرب جديدة، وهل هدأت الحروب يوماً في بواطن الخلق حتى تشتعل مجدداً في ظاهر الأرض فتلتهم معها الباطن والظاهر، الماضي قبل الحاضر المهدور والمسفوح على أعواد ثقاب الاشتعال النفطي و الكيماوي العالمي.
لم يتبق في حديقة الدار غير نخلة خيري تذكره بأثواب لبستها المدينة حين كانت عروساً تختال لطلابها فتهز جذعها على نسمات قادمة من ناح الشمال حيث الموصل تحمل معها وصلات طرب عريقة والآن ذات المدينة تهز جذعها المائل فتساقط دمعات ممزوجة بنفح من بقايا الفرات خالطها فساد الريح و الانسام التي ماعادت عليلة وقد اختلطت بغاز ثاني أكسيد الكربون تعاني بحة واختناقاً فقد هجرها أهلها وأحبتها ولم تكن لتذيقهم ما أذاقوها من لوعة الفقد.
آه بغداد ياحبة العين ويا واسطة العقد، لطالما كنت مدينة السلام وحين غادرك السلام حل الخراب في كل الأرض، كنت لنا أملاً رأينا فيك ملاذاً ومواساة لقلوبنا العائدة بعد توطينها في أجساد أضناها التاريخ ولم يرحمها واقعها، شمسك كانت تبزع فيشرق معها الأمل منعكساً في قلوبنا ومع غروبها غربت أحلامنا وتهاوت مع رمق الروح الأخير وأي واحدة من السبع كانت؟ وحده الله من يعلم . من جديد هاهي المدينة تتخطى الفواصل الزمنية بقفزات بعد أن حلت فيها روح جديدة من أرواحها السبع لكنها بوجه آخر غير ذاك الذي تعودناه ليس وجه ألأم ربما وجه الخالة أو ما يشبهها
طرق القلق سندان النبض في شريانها فانحسر الفرات عن ملاقاة دجلة بعد أن كانت بساتين المدينة كنقش حناء العروس ليلة الزفاف محفوفة بالغدائر والجداول وشقشقة البلابل التي لا يفارق شدوها المدى وتملأ أعشاشها تيجان الأشجار لم يتبق سوى رائحة الحرائق والنفايات المتكومة نتنة الرائحة تغطي مساحات واسعة من البيادر المجاورة للمدينة كدمامل نتنة تتقيح وتسيل بعصارتها فتلوث مجاري السيول والجداول شمس بغداد المسنة تسير بعرجة شوهاء وأنفاس أشعتها تنحسر في شهيق قد لا يعقبه زفير ليوم تال مفسحة الطريق لوجه العتمة فتميل ناح الأفق تلطخه بصفرة وحمرة كابية لا أثر فيها للبهجة
والصبح يصحو متثاقلاً خطواته وئيدة عبر المدى أثقلته الحكايات وكبد السماء المخرق بالأنين وجراحات الثكالى والغائبين كحبات الندى تبيت على أوراق الذاكرة التي أيقظها فجر جديد كان غائباً عن ما اجترحته يد الحرب الآثمة فما كان عليها شهيد.
قرقعة بوابة الدار وأنين مفاصل الباب الخشبي ومفتاح الدار وآه من مفتاح الدار، الدار التي ضمتنا يوماً ونامت في أحضانها آمالنا ويقيننا