لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمنِ | إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ |
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتهِ | على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ |
لا تَنْهَرَنَّ غَريباً حَالَ غُربتهِ | الدَّهْرُ يَنْهَرَهُ بالذُّلِ و المِحَنِ |
سَفْرِي بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني | وَقُوَتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني |
وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها | الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ |
ما أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني | وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي |
تَمُرُّ ساعاتُ أَيّامي بِلا نَدَمٍ | ولا بُكاءٍ وَلاخَوْفٍ ولا حزَنِ |
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً | عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني |
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَـتْ | يا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني |
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدُبُها | وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيرِ وَالحَزَنِ |
دَعْ عَنْكَ عَذْلِيَ يَا مَنْ كانَ يَعْذُلُني | لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ ما بِي كُنْتَ تَعْذِرُنِي |
دَعْنِي أَسُحُّ دُموعًا لا انْقِطاعَ لَها | فَهَلْ عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُني |
كَأَنَّنِي بَينَ جل الأَهلِ مُنطَرِحاً | عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني |
وَ قَدْ تَجَمَّعَ حَوْلي مَنْ يَنوحُ و مَنْ | يَبْكي عَلَيَّ و يَنْعاني و يَنْدُبُني |
وَ قَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني | وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني |
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها | مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ |
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها | وصارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني |
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا | بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ |
وَقامَ مَنْ كانَ حِبُّ النّاسِ في عَجَلٍ | نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني |
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً | حُراً أَديبًا أَريباً عَارِفاً فَطِنِ |
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني | مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني |
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحاً | وَصارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يُنْظِفُني |
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني | غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ |
وَأَلْبَسُوني ثِياباً لا كِمامَ لها | وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني |
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيا فَوا أَسَفاً | عَلى رَحِيلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُني |
وَحَمَّلوني على الأْكتافِ أَربَعَةٌ | مِنَ الرِّجالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني |
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا | خَلْفَ الإِمامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني |
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها | ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني |
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ | وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني |
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني | وَأَسْكب الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني |
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزْمِ مُشْتَمِلاً | وَصَفَّفَ اللَّبْنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني |
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا | حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ |
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا | أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني |
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يا أَسَفاً | عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُني |
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ | مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني |
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لهم | قَدْ هالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني |
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهمُ | مَالِي سِوَاكَ إِلهي مَنْ يُخَلِّصُنِي |
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يا أَمَلي | فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهنِ |
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا | وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني |
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لها بَدَلي | وَحَكَّمَتْهُ على الأَمْوَالِ والسَّكَنِ |
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَه | وَصَارَ مَالي لهم حلاً بِلا ثَمَنِ |
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها | وانْظُرْ إلى فِعْلِها بالأَهْلِ والوَطَنِ |
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها | هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ |
خُذِ القَناعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها | لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ |
يَا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً | يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ |
يا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي | فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني |
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً | عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ |
والحمدُ لله مُمسينَـا وَمُصْبِحِنَ | مَا وَضَّأ البَرْقُ في شَّامٍ وفي يَمَنِ |
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنا | بِالخَيْرِ والعَفْوْ والإِحْســانِ وَالمِنَ |