قراءة في قصيدة “الإهداء” للشاعرة حبيبة الصوفي – الدكتورة فطنة بن ضالي
القصيدة مأخوذة من أحد دواوين الشاعرة المغربية الكبيرة الأستاذة حبيبة الصوفي، وهو معنون ب “آدم الذي ” وقد قسمت قصائده إلى ثلاث مجموعات عنونتها على التوالي ب: معارضات ومساجلات، الذي ، لوحات وجدانية . يشي الديوان بالكفاءة العالية لشاعرتنا، وخاصة في السجال الشعريوهو تجربة إبداعية خاضتها الشاعرة مع شعراء من مختلف بلدان العالم العربي بتفوق، أما القصيدة الموضوع فهي أول ما كتب في الديوان تحت عنوان”الإهداء” ولاتدخل تحت أي قسم مماسبق. تقول:
وأهدي آدم المزروع في ذرات تكويني
أيا نصفي … ويا إلفي
أسوق إليك أشعاري لتحملني لظل المنتهى بالوعد تغريني
فباسم الوجد مجراها
وباسم الشوق مرساها
ها قد استوت روحي على الجودي في كفيك قد مدت قرابيني
وقفة رائعة من الشاعرة للاعتراف والاقرار بالمحبة للمهدى اليه ( آدم) هذا الاسم الذي يرمز لبني الجنس ممن تربطهم بالشاعرة علاقة راسخة،أوقرابة ثابتة،أو زوجية مفعمة بالألفة ، أوصداقة صادقة،وعبرتالشاعرة بأسلوب محبر موشى بشتى ألوان البديع وجواهر البيان، ضمنته أعمق المعاني الدالة على المحبة تقول : (أيا نصفي …ويا إلفي)، والنصف مشعر بالتطابق التام بين النصفين، ويقوي ذلك مناداتها بالهمزة وهي حرف يستعمل لنداء القريب، ومؤكدة أنه مزروع في ذرات تكوينها، وهذا ما يدل على وجود علاقة متينةبينهما ، زادها العنوان وهوالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت رسوخا ،وتنبئ الأفعال في بداية القصيدة (أهدي وأسوق ) بتحرك هذه المشاعر الحميمة وتجددها وتحصر الشاعرة مساق أشعارها لإرضاء المهدى إليه ، متفاعلة مع سياقات القرآن الكريم ،قالت( فباسم الوجد مجراها ) ( وباسم الشوق مرساها ) متشوفة إلى الاقتراب والاختصاص راجية الاستقرار،( هاقد استوت روحي على الجودي) إذ تحيل العباراتإلى سفينة نوح عليه السلام في الإبحار والاستقرار والسلامة وذلك كناية عن النجاة والأمن والأمان اللذين استشعرتهما الشاعرة في الحياة وفي تجربتها الشعرية وهي تساجل وتطارح الشعراء،وتفوق بنات جنسها في هذا الاتجاه، تقول :
أخط إليك أشعاري
أمد إليك حبل الروح بين الماء والنار
إلى أن ختمت :
يصير الشعر من صنعي براكينا وأنهارا
ويسري كالنسيم الحلو إحساسا وأنغاما وأشعارا.
ولعل الشاعرة هنا تصور تأثرها بالمهدى اليه وتبين الهدية الرائعة التي تقصد إليها ، والتي هي الشعر، فهو فينة يأتي من لهيب المحبة يعلو حرارة واحساسا حتى يصبح بركانا، وأخرى يأتي عذبا رقيقا حتى يصير ألحانا .وهي هنا تبين أن الشعر في الحالتين معا يصدر عن العاطفة الصادقة الوهاجة، و تقصد ب(أخط إليك أشعاري )أنها تعقد النية على ذلك ، وتعزم كل العزم على مخاطبة “آدم” الرمز، لأن النية هي أول ما يقوم عليه الشعر، كما يقول ابن رشيق القيرواني في العمدة ” يقوم بعد النية على أربعة أشياء ، وهي : اللفظ ، والوزن ، والمعنى، القافية ، فهذا هو حد الشعر “. أما كونه ألحانا فإن ” ألذ الملاذ كلها اللحن ، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الالحان ، والأشعار معايير الأوتار لا محالة ” ، وشعر شاعرتنا يجسد هذه المعايير في أحسن صورها ، ولذلك جاءت قصائد هذا الديوان ” كلها موزونة سواء عمودية أو شعر تفعيلة . تقول :
نساء حولك استسلمن إعجابا
!!!فهل قطعن أيدهن أم قطعن قلبي غيرة فانهار من حد السكاكين ؟
فلا الأيام أنستني هواك ولا شخوص الماء والطين.
هكذا تظل العلاقة بين آدم والشاعرة علاقة ود، وهي كذلك على مستوى الرمز المعبر عنها في الشعر، ومن البديهي ان الشاعرة تعتز أيما اعتزاز بشعرها ومجاراة ومطارحة الشعراء ومعارضتهم، فقد عارضت شاعرتنا في ديوانها هذا اثني عشر شاعراوشاعرة ، دون أن تكون ممن (استسلمن إعجابا) لأفكار وآراء بعضهم ، إذ دافعت عن آرائها، ملتزمة بقواعد السجال الفنية ؛ من بحر وروي وقافية ، وروح النص ومضمونه ونفسه الشعري، ورغم احترامها للشعر والشعراء وآراءهم إلا أنها تحتفظ بغيرتها كأنثى عن الانثى وتنتصر لها . وقد يعد هذا دافعا مهما من دوافع قرض الشعر والتفوق في التجربة حتى انقاد لها زمام الإبداع.وصار شعرها أنهارا تروي العطش ونسيما يسري عذوبة وخفة وعمقا.وتقول:
تبوح اليوم امرأة، أثارت فيك كل الهول زخات وأمطارا
أنا وحدي
أقاتل كل من غازلت زوجات وأبكارا.
جالت الشاعرة وتجولت في حقول البلاغة من معان وبيان وبديع ، فاستعملت الجمل الخبرية الدالة على حكاية ماهي عليه من انسجام تام بينها وبين المهدى إليه من تكامل وألفة بالغة وعاطفة إنسانية ، عبرت عنها بالجملالفعلية.و يبدو ميل الشاعرة إلى التوسيع وإغناء اللغة، مستعملة الصيغ الصرفية والجمل الايحائية، بخصائصها المختلفة، مع ضمير المتكلم الذي يحيل على الذات الشاعرة (أهدي، تكويني، روحي، أشعاري…الخ)، والتأكيد على ذلك باستعمال الاساليب الدالة على اليقين و التصديق منها الاستفهام (فهل قطعن ايديهن) وأضربت الشاعرة بجواب مقطوع به (أم قطعن قلبي) استحضارا لما حصل لزميلات امرأة العزيز في قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم.
كما عبرت بصور بلاغية رائعة منها تشبيه شعرها بالنسيم استئناسا وتلذذا، وبالاستعارة حيث صورت تغلغل آدم في دمها بالنبتة الضاربة في جذورالأرضعلى سبيل الاستعارة التمثيلية. وجعلت غيرتها رياحا تشتد وتعصف. وقابلت الشاعرة بين بعض التراكيب والالفاظ على مستوى المعنى والتركيب مما أكسب القصيدة إيقاعا داخليا قويا، عززه تكرار بعض الالفاظ أو تقارب مخارجها مثل حرفي السين والصاد في قولها: (يصير الشعر من صنعي )( يسري كالنسيم)، أما الإيقاع الخارجي فيقوم في القصيدة على نظام الأسطر، لان القصيدة قصيدة تفعيلة اتخذتها الشاعرة وحدة إيقاعية وجدتها منسجمة مع تجربتها الشعرية حققت لها الدفقة الشعورية القوية ، وذلك باعتمادها تكرار تفعيلة واحدة تامة في الأسطر كلها ، ويدل طول الأسطر على هذه القوة وعلى النفس الطويل.
هكذا، فالقصيدة شريفة المعنى، جزلة الألفاظ ومتنوعة التراكيب والأساليب قوية الإيقاع ، يصدق عليها قول الجاحظ :” أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء ، سهل المخارج، فتعلم أنه أفرغ إفراغا، وسبك سبكا واحدا ، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان “.
مراكش في 31-7-2022.