في حضرة النور: قراءة وجدانية فلسفية في قصيدة ماجدة الريماوي “ليس ما بيننا مضيف وضيف”
بقلم: رانية مرجية
في زمن طغت فيه الماديات وتشتت فيه البوصلة الوجودية، تأتي قصيدة “ليس ما بيننا مضيف وضيف” للشاعرة ماجدة الريماوي كنافذة مفتوحة على الضياء، حيث تتلاشى الحواجز بين الأرض والسماء، ويُستعاد الخطاب الروحي في أصفى تجلياته.
منذ البيت الأول، “ليس ما بيننا مضيف وضيف”، تنقلب المفاهيم التقليدية للضيافة، فالعلاقة مع النبي لا تُبنى على حدود الزمان والمكان، بل على محبة أبدية، انتماء روحي، وشوق وجودي. هنا، يتجلّى البعد الفلسفي: هل الإنسان ضيف في الأرض أم في حضرة الحقيقة؟ وهل العلاقة بالرسالة النبوية هي دعوة أم استضافة أم عودة إلى الأصل؟
حج داخلي لا يقتصر على الجغرافيا
القصيدة ليست رحلة مكانية إلى الحجاز فحسب، بل هي رحلة وجودية نحو المعنى. الشاعرة لا تزور، بل تنجذب جذبًا نورانيًا إلى مدينة تسكنها النبوة، ويغمرها الصفاء:
“جنة حول بيته
تنثر المسك وتجري
بكوثر معسول”
هذه الصور ليست وصفية بقدر ما هي ترميز لحالة تطهير داخلي، حيث تصبح الروح هي الأرض، والنبي هو الماء الأول، الذي يُجلي العطش الكياني.
حضور النبي بين الشعر والصمت
رأت الشاعرة النبي في صمته، لا في صوته، في “صمته البهي الخجول”، حيث تنبع عظمة الحقيقة من التواضع، لا من الضجيج. ثم تعود لتسمعه:
“واستمعت صوته الحر
يجلو غياهب المجهول”
صوته لا يكرّس المعرفة، بل يبدّد الجهل، فهو صوت لا يقول “اعرف”، بل يقول “تحرر من غياهبك”.
في هذه الثنائية بين الصمت والصوت، بين الخفاء والظهور، تبني الريماوي تصوّرًا فلسفيًا عميقًا عن النبوة بوصفها كثافة روحية خالصة، لا تُختزل في الخطاب، بل تُعاش في الصمت الحي.
الرسالة كهوية كونية
حين تقول الشاعرة:
“فاسأل الناس
بين شرق وغرب
فهم عن أهلها
في ذهول”
فهي تشير إلى فقدان الإنسانية بوصلتها الأخلاقية والمعرفية، ذلك أن مكة – مركز التنزيل – باتت مغفلة في الضمائر، لا في الخرائط. وهذا يحمل بعدًا اجتماعيًا بالغ الحساسية، حيث تنتقد الغربة الروحية التي يعيشها العصر الحديث، والغفلة عن المنابع الأولى للنور والمعنى.
الدمع كطقس وجودي
“سال دمعي
وطال فيك ندائي”
الدمع هنا ليس انفعالًا عاطفيًا سطحيًا، بل أداة من أدوات الاقتراب الوجودي. الدمع يُطهّر، ويصل، ويكشف، وهو ما يجعل القصيدة تنتمي إلى تجربة صوفية راقية، حيث لا وسيلة للوصال سوى الانكسار أمام الجمال الإلهي.
الضيافة النبوية كتحول داخلي
في مشهد الذروة، تصف الشاعرة الضيافة النبوية بهذه الصورة المركبة:
“في ضيافتك الغراء
مزج من
التسنيم والزنجبيل”
إنها ضيافة تُطعم الجسد كما تُنعش الروح، فـ”التسنيم” رمز الفردوس، و”الزنجبيل” رمز الحلاوة والدفء. بهذا، تتجاوز الضيافة مفهومها الاجتماعي إلى حالة شبه ميتافيزيقية: النبي لا يفتح بابه فقط، بل يفتح الأبواب داخل النفس.
النبي كصاحب لا كرمز
في ختام القصيدة، يتحول النبي من رمز ديني إلى رفيق وجودي:
“إنه يمنح
الأمان لقلبي
وهو يبقى
مرشدي ودليلي”
هنا يتحقق المعنى الكامل للقصيدة: أن العلاقة بالرسالة النبوية ليست استذكارًا ماضويًا، بل معايشة حالية، وعهد دائم، يجعل من النبي “صاحبي وخليلي” لا فقط نبيًا منقذًا.
خاتمة
في قصيدة “ليس ما بيننا مضيف وضيف”، تقدّم ماجدة الريماوي أكثر من مجرد نص شعري؛ إنها تجربة روحية وفكرية متكاملة، تستدعي القارئ لا ليفهم، بل ليشعر، ليبكي، ليتطهّر.
إنها دعوة مفتوحة إلى أن نعيد اكتشاف معنى “الضيافة” في أزمنة القسوة، وأن نكون نحن ضيوف المحبة، كما نحن ضيوف النور.