بقلم الأديب والناقد الأستاذ الدكتور أدهم الشبيب – العراق
في الجلسةِ التاسعة عشرمنْ جلساتِ الصالون الأدبي فقد استضفنا وبكلّ اعتزازٍ شاعرًا منْ طرازٍ خاص، ومنْ نمطٍ مختلف، لن يتمَ تصنيفُ مكانتَه الشعرية على الأسسِ المتبعةِ في ذلك، أو طبقاً للمعاييرِ المعروفةِ فحسب، وهو أهلٌ لذلك أيضًا وإن قال دائمًا إنّني مجرد هاوٍ فلا تُسمّوني شاعرًا، ولكن تصنيفُه عندي يتمُ وفقَ شرف شعرهِ ورسالتهِ النبيلةِ وتميّزه الّذي لا شبيه له.
فليس لدينا في الأدبِ العربي الحديثِ، و ندر ذلك في القديمِ، شاعر مثل نوري سراج الوائلي، فإذا كان حسانُبن ثابت شاعرَ الرسولِ، والأمامُ البوصيري شاعرَ البردةِ، فأنّ الوائلي (شاعرُ الرسالةِ) و شاعرُ الإسلام، في زمنِ خذلان الإسلامِ، والتكالبِ عليّه، شاعرٌ قابضٌ على جمرةٍ من النارِ، يعيشُ في بلدٍ يتآمرُ بعضُ ظلاّمه على الإسلام، شعرهُ شعرُ التميّزِ في زمنِ الإسفافِ، والقيمِ في زمن الانحدارِ.
وإذا غفلَ بعضُ النقادِ عن شاعرٍ مثل هذا لاختلافِ نهجهِ وأغراضِ شعره ، فأنا والصالون نتشرفُ ونرجو إلى اللهِ التقرب ومنه القبول والثواب ، إذ تحتضنُ جنباتُ منصّتنا هذهِ قصائدَ شريفةً كقصائدِ شاعرِ الرسالةِ ،ونطمحُأن يشملنُا اللهُ ببركته نوري الوائلي، الشاعر الذي اختار لنفسهِ هذا الخط، وندعو الله أنْ يجعلنا من خطهِ ، فهو المختلف في كلّ غرضٍ شعري عن كلّ شاعرٍ سبقه أو عاصره ، فإنّه عندما يتغزلُ في العيونِ أو الشفاه فهو ليس كالمتغزلين ، و إنّما يتشببُ ويتغنى بعيونٍ من نوعٍ آخر، ليس كعيونِ الحورِ أو الجآذر أوالجميلات تشبيبًا، بل يقول من قصيدته (أجمل العيون):-
واكرمُ العين عينٌ فاضَ محجرُها = عند السجودِ بقلبٍ يكتوي ندما
وحتّى وأنْ وصفَ العيونَ الّتي يصفها الشعراء فإنّه يجعلها في آخرِ مطافِ القصيدةِ استدلالاً لخلقِ اللهِ، وجمالِ صنعه، حيث يقول في قصيدته (العيون الملاح): –
اسألْ عن الخلقِ الجميلِ فإنّه = خيرُ الضمانِ بدايةً وختاما
لا تعحبنّ من الجمالِ فإنّه =آياتُ ربّك تبهرُ الأعلاما
وبنظمٍ جميلٍ يزاحمُ الشعر جرسًا،ويطاولُ العلومَ درسًا، ويجعلُ المتشدقين خرسًا، يرّدُ على الملحدين المنكرين بقوله في قصيدة منظومة أسمها (الشكوك والالحاد)،وقد أخترت منها هذه الأبيات:-
يتخيّلون وجودَنا في وسعهِ= من صدفةٍ جاءتْ به تحويرا
لو كانَ بدءُ الكونِ قام بصدفةٍ= مَنْ أنشأ الأولى لها تسخيرا
كم صدفةٍ يحتاجُ خلقُ خليّةٍ= قد حيّرت في خلقِها التفكيرا
كيف الجمال وسحره قد أُوجدا= من صدفةٍ لا تملك التدبيرا
وعندما يتناول سورَ التنزيلِ فإنّه كمنْ يشتغلُ بالتفسيرِ والتأويلِ، يقول من قصيدته المسماة (أقرا)
أوحى إليه كتابًا معجزًا حكمًا = للعدلِ يدعو وللتوحيدِ والقيمِ
أقرأْ هي الكلمُ الأولى وخاتمةٌ = لمنهجٍ مع روحِ العقلِ مُنسجمِ
أهلُ الفصاحةِ لم يأتوا له مثلاً = ولا سطوراًمن الآياتِ والحِكمِ
لا ريبَ فيه ولا بهتانَمُدّعيٍّ = ولا اختلافاً به في القولِ والنُظمِ
ما كانَ شعراً بما صاغتْ بلاغتُه=أو كانَ أضْغاثَ أحلامٍ لمُحتلمِ
أمّا في الاحتفال بلغتهِ الامّ التي يُعظّمُ قدرَها وهو المتحدّث منذ عقودٍ بلغةِ الأجنبي اضطرارًا، فانّه يقولُ في قصيدةٍ اسْمها (لهفي على العربي يترك أمّه): –
لغتي وهلْ في القولِ منها أجملُ؟ = أو في الكتابةِ والمعاني أكملُ؟
وإذا اللغاتُ كما النجوم تلألأت = لغتي المجرة نورها لا يأفلُ
لهفي على العربي يتركُأمَّه =عجبًا أمن لغة النبوّة يخجلُ
و لذا فأنّي لا أعدّ الوائلي شاعرًا صوفيًا كما قد يظنُّالبعض،إنّما هو شاعر إسلامي متكامل، واسع، متعددُالأغراضِ،كثيرُالأهدافِ، محورها الدفاع عن الدينِ الحنيفِوقيمه،أنظرْإلى قوله في قصيدة (رجعية الدين )، حيث يردُّ على المنسلخين من دينهم إرضاءً لأعدائهم أو ادّعاءً للتحضّر:-
داعي التقدّمِ قال الدينُ منكفئٌ= بالجهلِ يبني ظلاماً حيثما انْتشَرا
لا يصلح الدينُ، قد نادوا، لمجتمعٍ = بالعلمِ قامَ وبالحرِّيّة ازْدهَرا
جعلوا التدين عذراً كلّما سقطوا = والعيبُ فيهم وفي أفكارهم نخَرا
الدينُ عدلٌ وإحياءٌ ومعْتقدٌ = والعقلُ فيه دليلٌ يقتفي الأثرا
وقال في المشاعرِالإنسانيةِ النبيلةِ واصفًا (حنان الامومة) وهو اسم القصيدة، والّتي أخترت منها هذه الأبيات:-
في الدار طيفك شقَ الليلَ اسحارا = وألبسَ الياسَ آمالا وأوطارا
أمّا قصائده النبوية، وهو الشاعر المتفاني في حبِّ نبيهِ فهي لاتُعد، يقولُ عن إحداها: “بمناسبة ميلاد الرسول (ص) أنشر بعضَ الأبياتَ من قصيدتي الرسالة (خطوة لنهج البردة 240 بيتا) التي لم تنشر سابقًا: – وقد قال يلخّصها
وهلّلَ في مسامعِنا أبْـتهاجٌ =وعانقَ في النفوسِ لـه انْجذابُ
إذا ظَمِـئٌ على المبعوثِ صلّى =يزخّ الغيثُ ما حملَ السحابُ
وإذْ صلّى على طه عليلٌ = يُشافى والصلاةُ له الطبابُ
فصلّوا فالجزاءُ بكـلِّ نطقٍ = عظيمٌ لا يحدّدهُ الحسابُ
بها تـُمْحى المـآثمُ والخطايا =وباليُمْنى بها يُعطى الكتابُ
إذا تبـْغي الإنابةَ منْ ذنوبٍ = لك الصلواتُ للغفرانِ بابُ
وعندما يتدبّرُ الوائلي في خلقِ اللهِ وآياته، فإنّه يعبّرُ عن انبهارهِ بكلماتٍ من وحي قرآنه جلّ وعلا، يقولُ في قصيدته (جمالُ النحل) الّتي يصفُ فيها بتفصيلٍ متمكنٍ معْجزةَ النحلةِ،الّتي خصّص لها القرآن الكريم سورة باسمها
أفنيتُ عمري في رباكِ رحالا= وطرحتُ فكري في عطاكِ سؤالا
وجمعتُ من كلِّ العلومِ لأرتوي= ممّا ملكتِ عجائباً وخِصالا
يا خيرَ معجزةٍ وآية خالقٍ= مَلأَ الوجودَ معاجزاً وتعالى
وكتبَ عن الفايروس كورونا مرةً بنفسهِ الشعري القدري المتّعظ،فقال في قصيدة طاف الوباء: –
مَنْ بات تُبهرُه الدنيا بزُخْرفِها= قد أيقنَ الصبحَ إنّ الأرضَ تضطربُ
مَنْ ظنّ دهراً بإنّ الخُلد مكمنُه= قد أيقنَ اليوم إنّ البعثَ يقتربُ
أين المفرّ وهذا الداءُ يسبقُهم= لأيّ ركن لقاهم حيثما انقلبوا
وفي الزهدِ في الدنيا،يقولُ الوائلي من قصيدة طويلة اسمها (البحر)
لن تقنعَ النفسُ مهما طال مكسبها= حتّى تعيشَ بجدبِ البيدِ أزهارُ
يا جامعَ التبرِ لا تفرحْ بناطحةٍ=فما استدام لأهلِ الأرضِ إعمارُ
حسبي الفُتات وخيطُ الصوف يسترني= والخوْصُ سقفي وطولُ الدار أمتارُ
وعن قصتهِ مع الحرفِ الشريفِ،والقصيدِ النبيل، يخبرنا بقصيدة أخترتُ منها: –
جاهدْتُ دهْري للحروفِ وصولا= وقرأتُ كي أسْتكشفَ المجهولا
الشعُر قافيةٌ ووزنُ محكمٌ= وحكيمُ قول لن يضيّعَ ساعيا
و في الختام فأنّي أرى إنّ الشاعر، وقد أكرمه اللهُ بهذه النعمةِ، نعمة الهدايةِ والطاعةِوالالتزامِ، حتّى أنّ له من أسمه نصيبٌ فهو (نوري سراج الوائلي) نورٌوسراج،أقولُإنّ شاعرنا بإذن الله هو ليس من الشعراءِ الّذين يتّبعهم الغاوون ، ولا من الذين في كلّ وادٍ يهيمون ، ولا من الذين يقولون ما لا يفعلون، هو من الذين آمنوا و عملوا الصالحات، بل – ولا نزكيه على اللهِ، وإنْ شاء ربّي كرمًا فإنّه وأيّانا من الناجين.
خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة
سقيفة المواسم الألكترونية
جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،