زمن القناطر للروائي عامر سلطان – نصير أحمد الريماوي
– لملمت مشاهد المأساة الفلسطينية من عدة مدن، وأقاليم، وأزمنة تمتد منذ نهاية العهد العثماني إلى أيامنا هذه.
– تجلى فيها الصراع الحاد بين الحقيقة الفلسطينية وبين وهم أساطير المشروع الصهيوني الباطل الذي يعجز عن قتلها.
بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي
الروائي “عامر سلطان” فاجأني هذا الشهر، وأهداني آخر إبداعاته الأدبية، رواية “زمن القناطر” الصادرة عن ” دار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة الجزائرية” الطبعة الخاصة لفلسطين بالتعاون مع “الرعاة للدراسات والنشر”، المكونة من (267) صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن عشرة فصول، هي: زمن التلال والاغتراب، زمن البدايات، زمن المفاجآت، زمن سارة، زمن البحر، زمن الحب، زمن الثورة، زمن الحنين، زمن الاضطراب، زمن البيادر، زمن الأحقاد الدفينة وزمن العدالة.. وتلوّن غلافها الخارجي بلوحة للفنانة التشكيلية” سونيا إقنيبي” تعتبر لوحة اسلامية لفن العمارة، تحكي مع رسوماتها التوضيحية قصة وحكايات القناطر في البلدة القديمة بالخليل.. والقنطرة هي طراز معماري للمباني السكنية في فلسطين الذي يعتبر من أقدم وسائل التسقيف، منها على سبيل المثال: بيت القناطر، والأقواس، وبيت العقد المصلّب، والعقد الجمالوني، والقبة..إلخ . أما طير الحمام الذي يرفرف حول القناطر في اللوحة يبدو أنه يحمل رسالة وأخبارا لساكنيه، هذا هو البريد الطائر الذي استخدم قديما… الكثير من الذين لم يزوروا الخليل، وخاصة البلدة القديمة، لا يعرفون “حمام الحرم الإبراهيمي” الذي يتجمع على سطح الحرم مساءِ مع صوت أذان المغرب في كل يوم منذ القدم، كأنه يهبط من السماء ملبيا النداء.. يبيت وينتشر في الصباح، ويبني أعشاشه في شقوق حجارة الحرم الإبراهيمي- حيث يرقد جثمان أبي الأنبياء- وعلى نوافذ وأسقف البيوت القديمة المجاورة، كأنه حمام مقدس يحمل قدسية المكان، لا يصطاده أحد لكراماته الإلهية، كأنه حامي الحرم وحارسه الأبدي. لذلك التصق اسمه باسم الحرم وعرف بـ”حمام الحرم الابراهيمي”.. يتعايش مع الناس كأنه أرواحهم وقلوبهم تتهادى وتهجع في الحرم، وأعداده بالآلاف كأن الله تكفل بإطعامه..
أرى أن لوحة الغلاف تحمل في طياتها و تعبّر أجمل تعبير عن روح مدينة الخليل. رواية “زمن القناطر” لملمت مشاهد المأساة الفلسطينية من عدة مدن، وأقاليم، من الخليل ورام الله، ويافا، وستراسبورغ، وصيدا، وطرابلس، ودمشق، وأزمنة تمتد منذ نهاية العهد العثماني إلى أيامنا هذه، وهي شريط طويل يدور في ذاكرة شهيد لحظة استشهاده. لقد شكل الزمان والمكان في الرواية فصولا رائعة ومهمة عن حياة مدينة الخليل وقناطرها الشاهدة على معاناة شعبنا تحت الاحتلال.
إن محاربة الصهيونية المبنية على الأساطير والخرافات والأكاذيب بشخصية يهودية لا تؤمن بها أكثر تأثيرا على القارئ من محاربتها بشخصية غير يهودية. لقد وضع أبطال الراوية نُصب أعينهم هذه الفرضية لإبراز الصراع الداخلي داخل الكيان الصهيوني المصطنع، الصراع بين من يؤمن منهم بأن فلسطين هي أرض الفلسطينيين، وبين من يحمل فكر الصهيونية المبني على الأكاذيب والتزييف.
لا بد من ذكر أن عددا من شخوص الرواية حقيقية واقعية وبعضها رمزية، مثل: “وهبة” الذي هو في الواقع يكون جد كاتب الرواية وكل أحداث الرواية المتعلقة به حقيقية وحدثت، وكذلك شخصية “أبي العهد” الرمزية في لبنان، مستقاة من استشهاد عمه الأصغر” عفيف سلطان” في عام 1983 في طرابلس بنفس الأحداث المرويّة، كذلك شخصية الفدائي حمدي سلطان الذي اغتاله الإحتلال في قبرص عام 1988 بعد تخطيطه لبعض العمليات الفدائية البطولية، واتهامه بالوقوف خلف انطلاقة الانتفاضة الأولى.. لكن شخصية الخائن”ع” الذي أجهز على إثنين من المخابرات الصهيونية (الشاباك) وهما، (ايتسك ونتاليا) اللذان حاولا التخلص منه بعدما اسقطته (نتاليا) في شباك العمالة، فهي شاهد وتمثل العديد من الحالات التي أوقعها الاحتلال في العماله بذات الطريقة أو بأساليب مشابهة ولا نغفل السرد التاريخي في الرسائل عن ثورة العام 1936 وشخوصها وأبطالها الحقيقيين وكذلك التركيز على دولة شعب الملح التي أقامها الثوار في جنوب فلسطين وكانت نواة دولة بكل أركانها . أما الشخصيات الأخرى الواردة في الرواية، مثل: شيري، سارة اليهوديتان الفلسطينيتان الفرنسيتان الرافضتان للاحتلال وكل مظاهره وعسفه، وراشد، وأبو العهد، والحاج خضر، والخيّال الملثم والضابط في الأمن الفلسطيني كريم فهي رمزية خيالية مطابقة للواقع. وقد لجأ “عامر سلطان” في روايته إلى الرمزية وبعض الخيال لزيادة الجمال والتشويق في سرده الروائي، وقد يكون تحضيرا لكتابة جزء ثاني في المستقبل القريب سيكون بإسم” زمن الخيَّال”..
من وجهة نظري، تعتبر الرواية تاريخية واقعية، وكل أحداثها على مَر أزمانها تعكس الواقع الفلسطيني المعاش وألوان المعاناة والقمع اليومي تحت الاحتلال.. ويتجلى فيها الصراع الحاد بين الحقيقة الفلسطينية وبين وهم أساطير المشروع الصهيوني.. في وصفها لهذه الرواية “د. سميرة فنون المدير العام لدار ومضة للنشر والتوزيع والترجمة الجزائرية، قالت: أن زمن القناطر من أهم الأعمال التي أصدرتها دار ومضة من بين مئات الأعمال الصادرة عنها، لقد أثارت الرواية جدلا واسعا مما أعطاها شهرة كبيرة..
من يقرأ الرواية، يلاحظ بشكل جلي مدى قدرة الكاتب على جعل العلاقة قوية بين سرده الروائي والزمن، فقد جاء السرد متتابعا زمنيا للوحدات القولية، كما شكَّل الزمن عنصرا أساسيا في بناء الرواية، ولم يترك سرد أحداث فصول الرواية العشرة بمعزل عنه.. استطاع الكاتب في روايته توظيف الزمنين الروائيين: التاريخي أو الطبيعي المتضمن زمن الكتابة والقراءة، وكذلك الزمن النفسي، أو الشخصي المرتبط بالشخصيات، وبحالاتها الشعورية والنفسية، وتجلى ذلك في رسائل، وذكريات الشخصيات لتشكيل صورة الشخصية الروائية.
يرى بعض النّقاد أن الزمن هو الوعي بالحياة وعالم المتغيرات، لكن وفق كاتبنا “عامر” فالزمن هو باعث الأمل لمن يدركه، وهو الطريق إلى المستقبل لمن تَعلّمه… استطاع كاتبنا بأسوبه الفريد تصوير حياة الفلسطينيين ومدى حجم معاناته أثناء رحلة “راشد” وشيري” من رام الله إلى الخليل وفي بقية أرجاء الوطن، ومشاهدات “شيري” بأم العين للحواجز العسكرية، والمستعمرات الصهيونية المنتشرة كالأفاعي.. هنا وجهت “شيري” سؤالا لـ”راشد”: من يا ترى يشعر بالأمن أكثر يا راشد، أؤلئك الذين يعيشون في البيوت المحصنة في المستعمرات وخلف الجدران، أم هؤلاء البدو البسطاء الذين يفترشون العراء ويلتحفون برد ولهيب الصحراء؟ وهي أجابت: إن أصحاب الأرض فقط هم مَنْ يستطيعون الشعور بالأمان..(ص33)
أراد كاتبنا بذلك، تسليط الضوء على جزء من الأراضي الفلسطينية الذي يجسِّد معركة صراع الوجود، وعلى مدى قوة الانتماء الوطني والتماسك العائلي اللذان يصارعان الفوضى التي يُنمّيها ويغذّيها الاحتلال. لقد كان لرسائل الجد التي عثر”راشد وشيري”عليها في بيته القديم داخل البلدة القديمة في الخليل الدور الكبير في تصاعد أحداث الرواية، فهي كنز تاريخي مدوّن لأحاديث الرجال وجلساتهم عن ثورة عام 1936م والجوع الذي ضرب البلاد جراء الإضراب الذي استمر لمدة ستة شهور شمل أقوات البشر، وتحالف مع المستعمر الغاصب، وحكايات: النكبة الأولى، وإبّان الحكم الأردني، والنكسة والاحتلال الصهيوني..إن هذه الرسائل هي تسلسل حقيقي للأحداث منذ عام 1935 حتى عام 1990م. ويعتبر كاتبنا أن التاريخ إذا كتبة المنتصرون كاذب، وإن كتبه المهزمون كاذب، لكنه حقيقي وصادق عندما يُدودّن في رسائل المحبين والوعي الشعبي الذي يعيش.. لقد كنا على مر السنين وما زلنا ضحايا هوايات الأمم المستعمرة في السيطرة على مقدراتنا وهوايات الاحتلال في القمع والتعذيب والقتل والسجن والاستيلاء على الأرضي.. إن الهدف من إيراد نصيحة شخصية “وهبة” للجد، الذي رافقه في كل تفاصيل رسائله، والتي مفادها: آمن بصدق بمسعاك تظفر به ولو كان مستحيلا”(ص105)، هو لِبَث روح الثبات، والإصرار، والاستمرار في التحدي والتصدي للغزاة في النفوس.. تظهر الرواية بحد ذاتها بشكل جلي مشهد الصراع بين المقدس المدنس والحقيقة التي تأبى الموت وبين باطل يعجز عن قتلها!!! لقد أكد الكاتب في روايته، أنه لم يكن الاحتلال وحيدا في سرقة أعمارنا وقتل أحلامنا، بل إنهم كُثر، لقد كنّا على مر السنين – وما زلنا – ضحايا هوايات الأمم المستعمرة في السيطرة على مقدراتنا وشعوبنا، وهوايات الاحتلال ومَنْ قَدِموا معه من مخلّفات المجتمعات الأوروبية في: القتل، والتعذيب، والإعتقال، والقمع، وهدم المنازل، والاستيلاء على الأراضي..إلخ (ص118)
لقد لجأ الكاتب إلى الحوار الذي جرى بين “شيري ونادرة” لإبراز روح الصمود والثبات الموجودة لدى الانسان الفلسطيني من أجل الدفاع عن وطنه ووجوده.. اقتطف جزءا من الحوار للتدليل على ذلك: نادرة: نحن لا نموت، هناك أمور تبقينا أحياء رغم كل شيء.. شيري: ما هو يا نادرة هذا الشيء؟ نادرة: إنه إيماننا العميق بالقضاء والقدر، وثاني شيء يوجد سبب آخر وهو الاحتلال، فوجوده يمنع المؤمن بقضيته من الموت المجاني..(ص226)
من الملفت للانتباه أهمية الرسائل في السرد الروائي في رواية “عامر سلطان” هذه، حيث اسهمت اسهاما كبيرا في إضاءة الأحداث، وجاءت كعنصر لتنويع السرد، وأن جمالية السرد واللغة تجعلان القارئ يستمتع بلذة القراءة والمتابعة لدرجة جعلت السرد مقنعا بالرسائل.
آمل أن أكون بهذه القراءة المتواضعة قد أنصفت الرواية، ومدينة الخليل بهدف زيادة الوعي حول ما جرى وما زال يجري..
14/6/2023م
زمن القناطر للروائي عامر سلطان – نصير أحمد الريماوي