ضجيج الصمت
وسيلة أمين سامي
سأحكي لكِ مالم تسمعيه من قبل : ليلةَ عرسكِ كانت الفرحة تغمر كلَّ من حولك إلا أنا كنت أتعس إنسان على وجه الأرض، تلك الليلة، همتُ على وجهي غادرتُ المكان لظلام حزني تحت وهج أنوار عرسك لقد انتبذتُ حينها مكاناً لاوجهةَ له ، لا ينتمي للجهات الأصلية ولا الفرعية وإلى هذه اللحظة لاأدري أين كان ذاك المكان . أجهشتُ هناك حزناً واحتراقاً وضياعاً، وكان الأشد وطأة على قلبي مرور موكب عرسك من أمامي ليوشم في أعماقي مأتماً لازمني بوفاء منقطع النظير .
وهاأنا الٱن أجدني واقفا أمامك وأنت نائمة كالملاك .
يالسعادتي ها قد فتحتِ جفنيك، منذ ثلاث سنوات لم تفتحيهما !! هل رأيتِني عند رأسك لاأفارقك ؟ أعلم أنك رأيتني، لكن لاأظنك أبصرتِ لهفة عيني ، لم تلمحي ظلي العنيد الذي يعانق ظلك بلا فراق، لم تسمعي صراخ قلبي بنظرتك الخاطفة تلك . هاأنا أُدوِّنُ كل حركاتك وتعابير وجهك، فهي الكتاب المتاح لي قراءتُه لمعرفة مايختلج في نفسك وماتريدين قوله .
بعد زواجكِ كنتُ قد أكملتُ دراستي الثانوية
حصلتُ على منحة للدراسة الجامعية في الخارج، حاولتُ نسيانك ولو سهواً ، روَّضتُ قلبي على ذلك ..فأبى إلا العصيان ،
سافرتُ، واجتهدتُ ورغم كل الصعوبات التي واجهتني من مفارقة الأهل والوطن ، وبرغم كل المغريات الضاجة بكل أشكالها استطعتُ أن أتغلب على كل ذلك.
كان لدي زملاء رائعون كانوا سنداً لي برغم أنهم كانوا يعانون مما أعاني حتى أصبحت طبيباً مرموقاً يحوطني الجميع بالاحترام والتقدير .. حالفني بالنجاح بكل شيء حتى بفشلي في نسيانك . كانت لديَّ فرصةٌ كبيرة للاستقرار هناك، وقد عُرِضَ عليَّ العمل في أرقى المشافي إلا أني آثرتُ العودة إلى الوطن، رغم ظروف الحرب التي فرضت عليه وكأن القدر يسوقني إليكِ سوقاً. بعد جهدٍ مضنٍ حصلتُ على عمل في هذا المشفى
في ذاك المساء الحالك وبعد أن هدأ القصف على المدينة جيء لي بحالة احتار الأطباء في تشخيصها . إنها أنتِ، دهشت وأنا أرى والدك أمامي ودهش هو الٱخر وأخذ يرجوني أن أكشف عليك وأطمئنه .. أصدقكِ القول أنني عندما رأيتكِ كاد قلبي يغادر صدري، ارتجف كلهب في ليل عاصف.
أحقا ماأرى؟! أهذا أنتِ ياملاك؟! عصفت بي الذكريات، عدتُ للماضي، طفلاً جاء من الريف مع أمه الأرملة لتعمل في مصنع يمتلكه والدك نظير أجر يعينها على تعليمي. أتصدّقين أن ذاك الطفل وقع في حبكِ منذ ذاك الزمن؟ .. حب طفولي بريء .. كنتُ أكبركِ بعام رغم أنكِ كنتِ في العاشرة من عمرك، رفقكِ بي كان يشعرني بأنك أكبر مني ، تقدمين لي ألعابك الالكترونية ، تدليني على أشياء في المدينة كنتُ أجهلها ، أقمنا في منزل بجوار منزلكم ، كان والدك كثيرَ الحضور إلى المصنع لتفقد العمل ، وكنتِ ترافقينه وكنتُ أرافقكم إلى منزلكم لأحمل بعضَ الأغراض الخاصة بأبيك، أراقبك وأمك تصفف شعرك وترفعه كذيل الحصان، وتربطه بشريطة حمراء وأحياناً صفراء أوخضراء أتدرين ماذا كانت تعني لي تلك الألوان على شعرك الناعم المنسدل كذيل الحصان ؟؟ كانت فصولَ بهجة في عمري الصغير في قريتي لم تكن الفتيات يفعلن ذلك بأشعارهن. مرت بضع أعوام زاد تعلقي بك ، كنتِ تبعثين لي اشاراتٍ أفهمها بأنك تبادلينني نفس المشاعر من ذلك لفتاتك، افتقادك لغيابي، وابتسامتك الجميلة التي كانت تبرز غمازتيك متوهجتين كشمس في سماء صافية أستل منهما خلسة دفئا حان لامثيل له . والآن أراك، تحيط بك الأجهزة الطبية من كل جانب تنعش جسدك المنهك .. في وطن منهك أيضا . وطبيب أعيته صبابته.
لاتخافي ياعزيزتي، لقد عاود القصف، إنها الرقصة الشيطانية الدامية في مسرح القهر والظلم لأغتيال الحياة، مازالوا يستبيحون إنسانيتنا، أعلم أنك تسمعين،
ليت للعالم كله قلوب العاشقين لكانوا استبدلوا الصواريخ بالورود الملونة كتلك الشرائط التي كنتِ ترفعين بها شعرك.
هل أبدو حالما مجنوناً؟؟ أشعر أن قلبي يعد صمتك هديلاً يتلقاه بسمع من وَلَهٍ، أصبحتُ أحب صمتك، أراه وطناً يحمل صوتَ كل بائس مخنوق، وأريد أن أكون أنا هنا في مهنتي صوت من لاصوتَ له . أنتِ لست وحدك من اختفى صوته، فالمظلوم بلاصوت، السجين بلاصوت، والمقهور كذلك وما أكثرهم ياعزيزتي. ـ ياللروعة أنت تسمعينني فها أنت ترمشين بقوة.. سأدوِّن ذلك، لقد أثبتِّ أنك تسمعينني، أنا معك لن أتركك أبداً. عندما رأيتُ القلق يكاد يفتك بأبيك في تلك الليلة والأطباء في حيرة من حالتك تقدَّمتُهم توليتُ الكشف عليك، أدركت أنه قد أصابك مرض متلازمة المنحبس LOcKedـlnsyn. قلت لأبيك لاتخف هي حبس مؤقت للروح في الجسد لفترة قد تطول لسنوات، هذا المرض يُفقد الحركةَ والنطق، لكنه لا يَذهب بالوعي، ويمكن أن يخاطب المريض من حوله بحركة الجفون فقط وحركات خفيفة في اليدين ، هذا المرض يحتاج للدعم النفسي قبل كل شيء. لاتخافي سأكون معكِ، فلقد أحببتك روحاً جميلة نقية.. وسأرافق هذه الروح وإن حُبِستْ في جسد، حتى يأذن الله لك بالشفاء وتعودين كما كنتِ سأسمعكِ من خلال حركة جفنيك، لاتبخلي علي بالتجاوب، كم يشوقني رؤية عينيك تنظران إلي .. إني أسمع كل سكناتك، أسمع ألمك ، أنا صوتك الذي غاب، أنا وجدانك خارج قضبان هذا الجسد، كأنني أسمع صوتك يناديني :
( حسام )
من حسن حظي وجميل أقداري أني تخصصتُ بهذه الحالات.
هذا الصباح جميل في لحظات شروق شمسه الأولى أفتح النافذة لأشعتها لتتموج بين خصلات شعرك الكستنائي. هل تشعرين بالدفء ياعزيزتي؟ تتناوب الممرضات معي حولك، أُملي عليهن التعليمات التي تخص كيفية التعامل مع حالتك ، أجدكِ كل يوم تستجيبين بجسدك للعلاج ولصوتي الذي أصبح صوتك.
أخبرني والدك أنك قد طلقت من زوجك بعد عام من زواجك بسبب أنانيته المفرطة، و أن والدتك قد توفيت، سأكون معك، أنا أيضاً وحيد بعد أن توفيت والدتي. أنت لي ياملاك، كنتُ أهمس لنفسي بهذه العبارة منذ عرفتك، مضت الأيام وأنت تكبرين في قلبي وروحي لم تعانق سوى طيفك، عندما ألححتُ على والدتي أن تطلبك لي من أبيك، كان الرد جارحاً، فقد ذكَّرنا بالفوارق الاجتماعية بيننا وبينه بكلمات ماانفك سمها يسري في أضلعي.
( لستِ وحدكِ ياعزيزتي) أريد هذه الجملة أن تحفر في ذاكرتك، وكل الكلمات التي تحمل مشاعري على جدار قلبك، أعرف أنها فعلت ذلك باقتدار، فلنا ماضٍ نقي ،
ولنا حاضرٌ نعيشه معاً ، أنتِ قوية رغم مابك من ألم ستتغلبين على هذا المرض إن شاءالله.
ستعلق روائح الأدوية والمعقمات في ذاكرتك، لذا فأنا أحضر لك باقاتِ الرياحين التي كنتِ تحبينها، أعرف أن روحك ترقص الآن نشوى بها. هذه الليلة نظرتُ للقمر وأنا في طريقي إليك، إنه منتصف الشهر وهو مكتمل مهما تعاقبت عليه السنون لايعتريه المشيب، بل يزداد جماله توهجاً. تماماً مثل وجهك ياملاكي النائم .
ياللروعة هاأنا أرى على شفتيك طيفَ ابتسامة .. أعوام مرت لم أرها. أنا أدون كل حركاتك، وأهمس لك بين هذه السطور بكل مايخالج نفسي .
في تلك الأثناء تحركت ستارة النافذة البيضاء برشاقة بفعل هبوب النسمات الباردة .
ترك القلم جانبا أمسك بكفها وهو يقول في نفسه بألم : من يدري يا عزيزتي قد نقرؤها معاً أو تقرئينها وحيدة أو سأقرؤها وحيداً، لكني أتمنى أن نقرأها معاً. وفجاة ولأول مرة منذ أعوام أحس بأنامل ملاك تضغط بلطف ثم بقوة على كفه ، سرت في أوصاله رجفة كادت تفقده توازنه ، ظل يحدق في كفها في ذهول ويتفرس في وجهها
وهو لا يصدق مايرى ، كاد يصرخ ملء جَنانه جذلا ، الصمت المكبوت في صدرها ضج أملا في شغافه .