ثلاثُ ساعات – وسيلة أمين سامي

ثلاثُ ساعات

وسيلة أمين سامي

الثانية عشر منتصف الليل , كان يسير بخطى وئيدة , مشتملاً قتامةَ روحه , يشق عباب نقمته المسفوحة

فوق ملامحه المكفهرة, يركل كل مايصادفه أمامه باستياء مرير ، يكاد يخرج من جلده .

وقف قبالة منزل أدرك أنه تعرض لقصف صاروخي , الظلام يلف المكان , أغلب أهالي الحي النائي نزحوا من مساكنهم بعد القصف .
فكر بدخول أحد المنازل .. لكن قبل ذلك دفعه فضوله لاستكشاف ذلك المنزل المهدم جزئياً .

تسلل إليه وهو يتلفت يمنة ويسرة بحذر شديد , البرق يلمع بين السحب الكثيفة بين الفينة والاخرى

السماء تنذر بهطول المطر ، طاف بالمنزل . وبينما هو منهمك في ذلك ، ترامى لمسمعه صوت أنين خافت أفزعه ..لكنه

أقنع نفسه بأنه يتوهم , صوت الأنين مرة أخرى , عندها أيقن أن هناك من يتألم حقاً ,

جال ببصره في كل اتجاه مسلطاً مصباحه اليدوي متتبعاً بسمعه مصدر الأنين ,

إنه قادم من تحت ركام كثيف في إحدى الزوايا , فكر بالمغادرة فالأمر لايعنيه .

فجأة كأنه سمع هاتفاً غريباً في نفسه يحضه بقوة ..ساعد ..مد يد العون .

أيقظ ضميره من غفلته ..تراجع عن فكرة المغادرة , انتابته رغبة قوية في تقديم المساعدة , وإن كان قد حرم من كل شئ

إلا أن الله قد وهبه بُنية قوية ولأول مرة سيستغلها في فعل خير , بدأ يزيح الركام الذي كان ميسورا عليه إزاحته .

كانت المفاجأة .. شابة في مقتبل العمر , ساوره شعور بالشفقة التي لطالما تمناها لنفسه فلم يجُد بها عليه أحد .

اعصار من المشاعر المختلطة تشظى في دمه ..

سحبها برفق وهو يتساءل :

كيف لم ينتبه لها أحد ؟؟.. تباً لمن يستبيح هذه البلاد ً .

استمر بإزاحة الألواح والتراب والأحجار التي تساقطت على ساقيها .

اشتد أنينها كانت تتمتم بصوت خافت متقطع بالكاد يسمع .. أنصت لها جيداً
ـ أرجوك انقذني , خذني للمشفى.

عرف أنها على حالها تلك منذ ساعات طويلة .. عادت تقول :

ـ أشعر أن قدمي قد بترتا والألم شديد .. أنت ملاك رحمة بعثك الله إلي كنت يائسة من النجاة .

ملاك !!!! رددها في نفسه .. كلمة لطيفة .. على رقتها إلا أنها قوبلت باستهجان من قبل كلمات السخط المزروعة في سريرته ..
لكن سرعان ماألقت بظلالها العذبة في نفسه وانعكست ايجابا على عالمه الداخلي المليء بالفوضى والقبح ،

نبشت ماتراكم من غلظة صُبّت في عقله اللاواعي وجعلته نهباً للخطايا .

في هذه اللحظة لم يتذكر سوى صوت أمه , لاح طيفها فتوسد قلبه عبق الذكريات الحانية , وحده صوتها كان يردد

هذه الكلمة اللطيفة (ملاك )لكن الموت غيبها .
أصبحت ذكرياته الجميلة تمضغ الأمس المهتريء في مرايا الأفول .
قطع شروده صوت الفتاة :

ـ أرجوك خذني لأقرب مشفى , سيارتي في الخارج أتمنى أن لا يكون الدمار قد شملها لكن كيف لي ان أجد مفتاحها الان .

أخبرها بأنه يستطيع فتحها بطريقته الخاصة .. لم تعر ذلك اهتماما , كل ماكان يهمها هو الاسراع باسعافها .

نظر لقدميها اللتين طالهما إصابة بالغة , ربطهما جيداً بشال كان يلفه حول عنقه كإسعاف أولي وهو يقول :

ـ لاتقلقي سيكون كل شيء على مايرام إن شاءالله .

السيارة أصابتها بعض الشظايا في أماكن متفرقة لكنها ماتزال بحالة جيدة , استطاع بخبرته وخفته فتحها وتجهيزها خلال دقائق .

عاد إليها حملها برفق حتى استلقت في كرسيها الخلفي وهي تقاسي الآلام المبرحة .

أضاء البرق ملامحها الجميلة ، السماء تمطر بغزارة ، تحركت السيارة .

مشاعر غريبة تنتابه لم يكن قد أحسها من قبل ، ابتسم بأسى كيف دخل لصاً فأصبح ملاكاً منقذاً.

السيول تحدث حفراً في الطريق تحاشاها لطريق جانبي وتوقف هناك ريثما تنحسر .

السيول تزداد .. الرعد يزمجر بقوة مهيبة .
التفت إليها .. حدق في عينيها وبرغم مااعتراهما من اجهاد وذبول إلا أنهما وبوميض إيحاء
غريب منهما كانتا مقنعتين له بتهذيب مشاعره وإصلاح مافسد من سلوكه فاستجاب لاإرادياً لذلك الإيحاء.. كانت ترتجف من البرد ممادفعه لخلع معطفه وغطاها به بحنو ورأفة ، شكرته وهي تشعر ببعض الدفء يسري في جسدها .

عادت مشاعر نائية لطالما ولتهُ ظَهر بُعدها فأشعل القلب مصابيحه وأبصرت العينان دروباً مؤنسة .

ــ السيول شديدة لاأستطيع مواصلة السير هل تستطيعين تحمل الألم ريثما تنحسر؟؟

هزت رأسها مستسلمة , إذ لاخيار آخر .. ساد الصمت وعلى مسام الوقت انبعج الليل وتمادت ظلمته .

مرت ساعة ونصف منذ التقاها .. سألها :
ــ هل لي أن أعرف ما اسمك ؟

أجابت بوهن :
ــ كوثر .

قال في نفسه : ياله من اسم جميل .

ترقرق منه ينبوع عذب زهّر ماتحجّر في نبض ضلوعه .

ــ وأنا محمود .

— ممتنة لمساعدتك يامحمود

— العفو هذا واجبي .

عرف منها أن أسرتها سافرت وهي على موعد للحاق بهم بعد الإنتهاء من اختباراتها الجامعية لكن الصواريخ والقذائف دمرت كل شيء جميل ولم تمهلها لتحقيق ماأرادته .

عادت تثني عليه .
تنهيدة حارة زرعت في صدره أشواكَ الحسرة وهو يهمس في نفسه : آه لو تعلمين أي نية دنيئة كانت تراودني حين دخلت منزلك.
ومن خلال وميض البرق لمح عينيها المتعبتين أحس كأنهما تقطران فجراً في مهجته قطرة قطرة .

أزف ربيع عمره تنفس شوقا جديدا مخضوباً بالشروق .

مرت ساعتان .. الوقت يتثاءب .. ينسل في أحضان الرحيل .. المطر ماانفك ينهمر بشدة، قطراته تطرق زجاج نوافذ السيارة كأنها هاربة من خطب ما .

كوثر تستسلم لآلامها بصمت .
خرج من السيارة يعاين الطريق ، لفحته الرياح.. غمره المطر..
مستعذبا زخاته القاسية في سبيل إنقاذ هذه الجميلة
أحس بأحزانه تتنادى أمام عينيه تلوذ بتلك الرياح لتذروها رمادا .
عاد إلى السيارة .

— ماكان ينبغي أن تعرض نفسك للخطر .
تنسم عبير صوتها جذِلا ، أحقا أن هناك من يحنو علي !!!! غير الرصيف البارد الذي كان وحده مأواه !!!

— كانت محاولة ، المهم كيف حالك الآن ؟

ـ لم أعد أحس بقدمي أنا خائفة جدا

ـ لاتخافي سيكون كل شيء على مايرام .
مَدتها كلماته بشيء من القوة .
ابتسمت بوهن .

نظر لعينيه في المرآه الأمامية لأول مرة يرى فيهما وميضاً يفيض بالفرحة والدفء وكأنه شخصية أخرى جميلة انسلخت من شخصيته اليائسة المأزومة .. أحس بشيء عذب غامض يزلزل كيانه .

تساءل : ماالذي يحدث لي ؟

أينع دفء غريب في صقيع المساء .. تعلق القلب بأجنحة المطر يرتجي اخضراراً لخفقاته الذابلة.

وفي عالمه الداخلي كانت شفاه الوقت مزمومة تأبى البوح بحكايا الوداع..

تخطفته الذكريات .. قسوة زوجة أبيه ، الجوع الذي لطالما لسعه ، الضياع الذي فتح له أبوابه ، أخذ يضرب المقود بعنف وكأنه يضرب الدرب المظلم الذي سار فيه وحيداً تحفه الأشواك والآثام والمخاطر

فزعت كوثر سألته :
ــ ماذا بك ؟
أجاب : لا شيء فقط مستاء من هذا الظرف الذي أعاق وصولنا إلى المشفى .

بدأ المطر يخف والسيل ينحسر .. انطلق أخيراً باتجاه المشفى .. صادفته الكثير من العوائق في الطريق لكنه استطاع تجاوزها بمهارة حتى وصلا

سألها : هل لديك قريب حتى أعلمه بحالك ؟
ـ نعم
أملت عليه رقم جوال أحد أقاربها أُدخلت إلى المشفى , انتظر حتى اطمأن لقدوم شخص يسأل عنها .
ــ شكرا محمود لإنقاذك حياتي
ــ بل الشكر لك لأنك أحييتِ في روحا أخرى
لم تفهم ما يعنيه لكن شفتيها صدحتا بابتسامة غاصة بالامتنان مع كثير من الحيرة ..
نظرا لبعضهما نظرة أخيرة .. نظرة طويلة ، فاضت مشاعر دافئة صعب البوح بها .. كل ما استطاع فعله هو أخذ رقم هاتفها ليطمئن عليها ..
أشارت له بيدها ملوحة بالوداع والفجر يبسم في وجه الأفق .
غادر وهو يردد في نفسه :
— من يدري لعلي ألقاك يوماً ما وأنا الملاك الذي ظننتِه .
روح محمود تعرج بمحاريبَ وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.

ثلاثُ ساعاتٍ انصرمت كـأنما قَدَّت لعمره من ضَيِّ الإشراق دهرا.

عن Abdulrahman AlRimawi

شاهد أيضاً

الفقيد – د ميسون حنا

الفقيد قصة قصيرة بقلم د ميسون حنا للفقيد الرحمة، تبودلت العبارات التي تشيد بخصال الراحل، قال أحدهم أنه طيب القلب، نقي كالثلج، وآخر نعته بالكرم والسخاء، وآخر بالتسامح والصفح عن زلات الآخرين، نعتوه بطيب المعشر، واللطف، ودماثة الخلق،

تنويه تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط. علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: