-
هل تشعر بشيء الآن؟
مطلقا، تلاشى كل شيء، حتى ذلك الإحساس المؤلم الذي لازمني طيلة حياتي؛ وُلدت بثقب في القلب، أخبرني الطبيب أن العلاج يتوفر في الخارج فقط، وأن تكلفته باهظة جدا، ربما أغلى من حياة جميع الكادحين الذين كانوا يحلمون بحقنة مجانية، مصحوبة بابتسامة عميقة، أو أي شيء يرتق إحساسهم بالنقص. ضحكت حينها، ضحكت كثيرا لدرجة أنني انفجرت من شدة البكاء والألم. أنا الآن أحلق عاليا، وبإمكاني أن أرى جميع الفاسدين المختبئين في خطب المناضلين، وتحت عمامات شيوخ الدين، وفي غسيل أموال الفاسدين. لطالما غُرس فينا واجب فداء الوطن، وثواب الصبر على الابتلاء، والمفاخرات بتاريخنا الكاذب، فلم يقدرنا الوطن، وظل الابتلاء ملازمنا، والتاريخ يزور أوجاعنا لصالح بطولات المناضلين والشيوخ والفاسدين الكاذبة. كاد الجوع يفتك بي مرارا، ولم أر أحدا منهم حينئذ، لكن الآن فقط يمكنني رؤيتهم وهم يحصون في العتمة ما نهبوا من الوطن، ومن جيوبنا الخاوية. لم أكن يوما خائنا، أو فاشلا، كنت فقط أزحف وراء لقمة عيش نظيفة تسد رمقي، وترتق انكساري أمام كل الأشياء الباهظة التي لم أستطع اقتناءها يوما، وظلت ملازمة لعجزي. كم حلمت بشهادة جامعية تسند ضعفي، لكن مرض والدي، وثياب أخوتي المرتقة، والتشققات الدامية في كفيّ والدتي وقدميها كانوا كعصا حديدية تعترض دوران عجل حلمي المندفع. لا أشعر بشيء الآن، ولاشعوري أكبر من كل كذباتي التي كنت أقسم فيها أنني على ما يرام، بينما لم أكن كذلك، ومن ولائي الكاذب للعلم وأنا أردد النشيد الوطني صباحا، ويدي على قلبي المثقوب، لم يسعفني صدحي، وبقيت أرتجف من شدة البرد والجوع والتعب، وفي داخلي حلم متأجج بهجرة تخلق لي من اللاشيء قيمة أبدية. الآن فقط الرؤيا لدي أصبحت أكثر وضوحا، بعد أن ازداد الثقب اتساعا وعمقا، فالتهم قلبي، وكل ما فيه من وجع حاد، وذكريات أليمة لم تُجد معها جميع المسكنات نفعا. الآن فقط لم أعد مقطب الوجه، وأصبح بإمكاني الضحك كليًا دون أي محاولات مضنية تكبح بكائي المتدفق، الآن أصبح بإمكاني الضحك على صوت أزيز الرصاص المدوي في فراغ الوطن؛ في الأفراح، وفي استقبال المسئولين الذين نهبوا أوطانهم، وجاءوا ليعتلوا المنصات كي يخبرونا عن قيمة الولاء، وعن بشاعة الخيانة، ترى كم كانت ستشبع تلك الرصاصات الزائفة في الهواء من جوعى. الآن أصبح بإمكاني الضحك على طوابير الحالمين بالمستقبل المشبع بالثياب الأنيقة، والأطعمة الشهية، والبيوت الفاخرة، والسيارات الفارهة، والأطفال الذين تفوح منهم رائحة الرفاهية والرغد، ولم يعلموا أن بصقة ساخرة كبيرة كانت بانتظارهم، في آخر الطريق المحفوف بصور الحياة الكادحة البائسة.
الآن لا أشعر بشيء ، مطلقا، والثقب التأم، ولم يعد ثمة ألم أو جوع أو تعب، الآن فقط يمكنني أن أرى الوطن حقيقيا كاملا، غير ممزق بسكاكين مناضليه وشيوخه، وفاسديه.
Tags رائدة الطويل
Check Also
مت أنا وعاش أخي – مما أعجبني
مت أنا وعاش أخي ..من الأدب الإسباني ..يعتبر الكاتب الإسباني رافاييل نوبوا من أشهر الروائيين الاسبان، أحب الأدب والرواية منذ صغره