إسراء جعابيص، الأسيرة الفلسطينية التي أبت النيران إلا أن تشوه ملامحها، وتلتهم ابتسامتها، وتقضي على آخر ما تبقى منها؛ بصمات كفيها.
من لا يعرف كيف يصبح الإنسان غريبا على نفسه أمام المرآة، وفي منافي الأرض التي تسكنه بشراسة، فليسأل إسراء.
وحدها عاشت رعب الصدمة، وأحست ألم الاحتراق المبرح، ووجع الصراخ المدوي في الفراغ، وحيدة، وسط جلادوها الذين أكملوا الدوس على جراحها، وتمزيقها أكثر، فاكثر.
للموت فجيعة أخرى، أكثر ألما من ضجيج أطفال لم يعد يُسمع إلا في الذاكرة بعد رحيلهم الأبدي، ومن ابتسامة لقاء متعطشة استقبلتها صفعة مباغتة، للموت وجوه أخرى، أكثر بشاعة من فوهة بندقية في وجه حالم، ومن بريق خنجر يلمع في وريد محب، ومن حبل مشنقة يتدلى في آخر النفق، للموت معانٍ أخرى، أكثر انحطاطا من بزقة جندي على جبهة مناضل وشى به صديق، ومن طعنة مسمومة جاءت بعد عناق طويل. إسراء عرفت شكل الموت ذلك، ووجهه، ومعناه، وعرفت كيف يُحفر القبر، وينقش على الشاهد اسم المولود، ويطول الانتظار المعبئ بالخوف والوحشة.
من سينصفك حقك يا إسراء، في مجتمع يهودي، ذكوري، من سيخبرك أنك مازلت جميلة جدا، رغم ملامحك الذائبة، من سيعانقك ويهمس لك ما كتبه غسان كنفاني يوماً: “الوطن ليس شرطا أن يكون أرضا كبيرة، فقد يكون مساحة صغيرة حدودها كتفين”. الآن فقط، فقدتِ الوطن، والكتفين، والمساحات الفارغة التي كانت بانتظارك، وكل الحدود التي كانت ستلملم ما تبعثر منك بسبب الحريق.
أخبريهم يا إسراء أنك من القوارير التي أوصى بها رسولنا “الكريم” محمد، أقسمي لهم أنك لست من النساء اللاتي ملئت بهن جهنم، وإنك لست ناقصة عقل ودين لينكلوا بك أيما تنكيل، أخبريهم أن اليهود ملئوا كأسك موتاً، ولم يعد ثمة متسع، لموت آخر فيه، استجوبيهم في ذلك البلاغ المعبئ بالطلقات الحية لا الكلمات، كيف حرروه، وكيف طبعوه، وكيف أوصلوه، وكيف شرّعوه، وفيه اسمك قد طُبع.
لست أسيرة لليهود فقط، أنت أسيرة لمجتمع يؤمن بأن الحياة والمتعة والحور العين التسعة والتسعون، فقط للرجال، وأن الصبر وألم المخاض وعبئ الحياة كلها، للنساء فقط، مجتمع لا يرجى منه عدل ولا حق، إنما انتظار لعدل إلهي لا يوجد إلا في السماء، حيث لا ألم ولا حريق، ولا بلاغات خُطت من حروف محشوة بالموت.