أكثر من قراءة
ناقشت مجموعة أكثر من قراءة، كتاب شهر آذار “قبة السماء” والذي هو سيرة المناضل إبراهيم سلامة وكتبته السيدة زهرة كوسى.
المناقشة كانت وجاهيا بحضور أعضاء المجموعة وعبر زووم بحضور الأستاذ حسن عبادي والأديب حسن حميد وبإدارة السيدة سماهر مروج.
قُدمت اوراق من قبل أحمد أبوسليم ، صلاح أبولاوي، طارق عودة، حسن عبادي، حسن حميد، وائل النابلسي، ليُناقش الكتاب بعدها من قبل الحضور.
قرأ الشاعر صلاح أبو لاوي قصيدة ” تتدللين” والشاعر محمد خضير قصيدة ” يا وجه أمي” ، أمتعنا بعدها الفنان كمال خليل ببعض من أغانيه عن المرأة ليختتم مشاركته بأغنية الوطن من لون الناس تكريما لأسرانا في المعتقلات.
قراءة ممتعة للجميع
على قبَّة السَّماء
قصَّة إبراهيم رجا سلامة”أَبو عرب” بمنطق زهرة الكوسى
جدليَّة المكان والبشر
إن كانت إسرائيل قد قامت على مجموعة من المقالات المؤسِّسة الَّتي خلطت بين قدسيَّة النصِّ المقدِّس، والتَّاريخ، وحاولت بذلك أَن تخلط الواقعيَّ بالمتخيَّل، الأركولوجيَّ بالمكتوب، وأَعادت كتابة ما يمكن كتابته لتجعل له قوَّة الواقع، وحضور الحقيقة، وتطمس من خلاله ما يمكن طمسه من التَّاريخ الشَّفهيِّ حيناً، والتَّاريخ المكتوب من خلال إعادة تدويره، أَو تفسيره مستندة إلى تداخل الأَسماء في التَّاريخ الأَبعد والأَقرب، فإنَّ الواقع الَّذي يحظى بصياغة دقيقة بتفاصيله الصَّغيرة يقطع الطّريق على نُهَّاب التَّاريخ من أَن يحظوا بفرصة مماثلة في لحظة استعمار عابرة ما، حيث يصبح بوسعه أَن يكون تاريخاً لا يقبل الطَّعن حين يصبح من الضَّرورة في بعض الأحيان قصَّ أَجزاء من التَّاريخ ولصق صور دخيلة عليه من قبل المستعمر الَّذي سيكون لزاماً عليه أَن يفعل ذلك من أَجل تقديم تبرير أَخلاقيٍّ لوجوده، وكينونته.
ربَّما من هذا المنطلق راح الكثير من الرُّواة الفلسطينيِّين يصرُّون على كتابة تفاصيل الواقع الَّذي سيصبح ذات يوم تاريخاً، ومنهم زهرة الكوسى الَّتي أَخذت على عاتقها كتابة تاريخ اعتقال زوجها المناضل أبو عرب.
إنَّ قيمة النَّظريَّة تكمن في إمكانيَّة تطبيقها، وقيمة المقولة تكمن في قدرتها على عكس الواقع وما خلف الواقع وإعادة إنتاجه بطريقة تضمن عدم سقوطها في براثن الخديعة الَّتي قد تتحوَّل إليها المقولة حين يتجاوزها الواقع المتحرِّك دائماً وأَبداً.
من هنا قد تحمل المقولة قدسيَّة ما، حين تصبح قادرة على المقاومة والاستمرار، ولا يأتي عليها الزَّمن فيعيد تشكيلها ضمن منطق الخديعة.
تستعرض زهرة مجموعة من المقولات المؤسِّسة الَّتي ينبني عليها الواقع، بطريقة أَو بأُخرى، محاولة نسف مقولات حاول العدوُّ دائماً وأَبداً ترويجها من أَجل تبرير وجوده، ولو جزئيَّاً، في المرحلة الحاضرة بانتظار ما سيراكم عليها التَّاريخ الَّذي سيصبح تاريخاً كي يصبح المحتلُّ واقعاً حقيقيَّاً آنذاك.
هل يشكُّ العدوُّ بحقيقيَّته؟
قد يبدو السُّؤال زائداً لكنَّه ليس كذلك.
ثمَّة ضدَّان على أَرض واحدة تُدعى فلسطين، متَّحدان في الجغرافيا، متناقضان في التَّاريخ، والواقع، والأَيديولوجيا، والبنية النَّفسيَّة، والاجتماعيَّة، وغير ذلك بكثير، ما يعني، فيما يعني، أَنَّ وجود الضدِّ هو نفي لوجود الآخر، فالمهزوم سيقابل المنتصر، والأعلى سيقابل الأَسفل، كيف لا وقد بُنيت الدَّولة الصُّهيونيَّة برمَّتها على أَنقاض شعب تمَّ ذبحه والتَّآمر عليه، وتشريده في كلِّ أَنحاء العالم، كوجه بديل للضدِّ اليهوديِّ الَّذي ظلَّ محكوماً بالدِّياسابورا عبر التَّاريخ، وحاول أَن يضع نقطة الختام لمنطق الدِّياسابورا من خلال الدَّم الفلسطينيِّ المُستباح منذ ذلك الوقت.
هناك إذن إبراهيم المولود عام 1943 في فلسطين، في قرية أم الزِّينات، الَّذي سيفتح عينيه على الدُّنيا على أَصوات الرَّصاص والمدافع، وسيتشكَّل وعيه من خلال مذابح عام 1948، وتشريده مع أَهله خارج فلسطين، وسيسكن المخيَّم، الضدَّ المباشر للوطن، وسيمارس الجوع،
وسيسأَل أُمَّه ذات يوم حين كان طفلاً: هل لأَبي قلب؟ وسيقول إنَّه لم يشعر يوماً بحب أَبيه له، فهو يملك جلداً غريباً على كتم مشاعره وعواطفه….ص14
إنَّهما نتاج الواقع، والواقع مشتبك بالزَّمن من جهة، وبالمكان من جهة أُخرى.
هل حملتهم أَقدامهم أم رعب أَهلهم إلى خيام تمتد إلى الله،؟ لكن هل مأساتهم بدأَت لحظة نصب أَعمدة الخيام، أم لحظة احتوائهم العراء….ص27
ستنتج إذن مأساة فلسطين سيكولوجيا مختلفة، فالأَب أَصبح مختلفاً وقد مرَّ بطفرة في حياته أَعادت تشكيل بنيته النَّفسيَّة، وإبراهيم كان عليه أَن يكون شخصاً مختلفاً لولا الواقع، والمكان.
ليس الإنسان وحده هو الَّذي يحبُّ المكان، ويألفه، بل إنَّ المكان نفسه يشكِّل مصدر ثقة وإبداع، ويصبح عاقلاً يألف الإنسان نفسه…ص 23.
لم تكن طفولتهم مهددة فقط بل وجودهم برمَّته، وهنا نفهم سبب عناد وصلابة إبراهيم. ص27
إذن أَصبح المكان هو الوعاء الَّذي يحوي الواقع الجديد، وهو بتعبير آخر، الوقت الَّذي يحوي الزَّمن ويحمله، أَو الشَّكل الَّذي يدخل في جدليَّة مع المضمون، ولا يمكن له أَن ينفصل عنه، فالمخيَّم ينتج دوالاً بعينها، مهما اختلفت أَو تناقضت في بعض الأَحيان، والوطن ينتج دوالاً أُخرى مختلفة، والحرب تنتج واقعاً جديداً، وبنية نفسيَّة لا يمكن لها أَن تكون نفسها في زمن السَّلام، وردود أَفعال مهما تفرَّعت فستقود في نهاية المطاف إلى أَقدار بعينها.
إنَّ الولد الَّذي خرج من فلسطين مشرَّداً وهو في الخامسة من عمره، وسكن المخيَّم، أَو ما يشبه المخيَّم، وعاش يتم الوطن، سيجد احتمالات قدره تقوده باتِّجاه محدَّد، وسيدخل فلسطين فدائيَّاً، وسيلقى القبض عليه هناك، وسيحمل إلى المعتقل، ويصبح في لحظة ما وجهاً لوجه مع عدوِّه.
ما الَّذي قد يفعله الفلسطينيُّ في المعتقل؟
أَو سنطرح السُّؤال بطريقة أُخرى: ما الَّذي يفعله المعتقل بالفلسطينيِّ بالضَّبط؟
أَليست العلاقة مع المكان هي علاقة جدليَّة؟
حين يصبح المرء ابن الزِّنزانة، ذلك يعني فيما يعني، أَنَّه أَصبح ابن مكان مختلف، نتاج مكان مختلف، يعيد تشكيل الوعي من جديد، والمعرفة، والقناعات، وكانوا هم يدركون ذلك، بل إنَّهم هم من يعطون للمكان ملامحه كي يصبح بوسع المكان إعادة تشكيلك، وخلقك من جديد، ربَّما، لهذا بالذَّات، تعيش حياتك في مقاومة بلا توقَّف، كلَّ لحظة، تقاوم كلَّ الواقع دفعة واحدة، بكلِّ تفاصيله الدَّقيقة، لأَنَّك تدرك أَنَّ الواقع يسير بك عكس نفسك.
الألم حالة لا يمكن إدراكها أَو وصفها، والجنون هو الوجه الآخر للعقل، وأَنا أَجزم أَنهما وجه واحد في حالات المناضلين. ص 41.
عندما لا يسرح الأسير بنظره في الأفق، ويمسح به الطبيعة، ولا يرى إلا جداراً على بعد مترين أو ثلاثة، وسقفاً يرتفع بنفس المسافة، يخلق ذلك إشكاليَّة في الرؤية وأَمراضاً كثيرة. ص43.
حتى الإحساس بالوجع والمرض أَقلُّ عند الأَسير بحكم التعود والتعايش مع غياب العلاج. ص 44.
الكون يشمل كلَّ شيء إلا الزنزانة فهي مكان لا ينتمي للكون. إنها المكان الخاص الذي ينتمي إليه المعتقل. ص 56.
كل انتصار مهما بدا صغيراً هو وقوف على قبَّة السَّماء.
كسر حاجز الخوف والرعب.
إنَّ الوعي بذلك التَّشابك بين البشر والمكان هو النُّقطة الأُولى في معركة الأَسير مع المكان، وقد بدا واضحاً أَنَّ أَبا عرب يدرك ذلك منذ البداية.
لكنَّ ما تبقَّى، في نهاية المطاف، هو السُّؤال الَّذي يبقى دائماً معلَّقاً في الفراغ: هل يمكن للإنسان أَن يتخلَّص من السِّجن فيه؟ وما معنى أَن يصبح سويَّاً بالضَّبط؟
على الضفَّة الأُخرى ثمَّة حياة لم تكن في الحسبان.
هكذا يلخِّص أَبو عرب الواقع بعد خروجه من السِّجن، لكنَّه لم يكن يريد أَن يتخلَّص من السِّجن فيه، فالسِّجن قد أَعطاه أَبعاداً حقيقيَّة لأَنَّه عاش السِّجن نقيَّاً وهو يقاوم كلَّ لحظة تحاول أَن تصهره في الواقع، أَي واقع الاستسلام للواقع.
إن القهر والعذاب تخلق نوعين من البشر، ساديَّ يسقط عذابه على الطرف الآخر، ومازوشي يعذب نفسه. ص 121
لكنَّ أَبا عرب لم يكن هذا ولا ذاك….إنَّه الفدائيُّ الَّذي ظلَّ قابضاً على جمرة الثَّورة، وبقي بعد موته ليدخل التَّاريخ بكلِّ التَّفاصيل الَّذي عاشها، كي لا يُكتب لنا ذات يوم تاريخ جديد مبنيٌّ على واقع مغاير.
قراءة طارق عودة
معايشة الامر تختلف عن الحديث عنه
ونحن هنا امام عمل يستعرض 13 عاما من الاسر والاعتقال في في سجن عسقلان.
*في وجدان المناضل الفلسطيني الجنة على الارض هي فلسطين يطلبها حثيثا ويستأنس بكل ما يمت بصلة اليها
اابراهيم رجا سلامة
*ابو عرب فلسطيني يتقاطع مع معظم الفلسطينين ابناء جلدته ومعاصروه بما قاسى وعانى الانسان الفلسطيني من قهر وبؤس وصعوبات ناجمة عن الاحتلال واستبداده وغطرسته
يقاوم ويقاوم ويقاوم ما استطاع للمقاومة سبيلا وطريقا ككل الشرفاء والاحرار في كل العالم
يسكن الناس في اوطانهم اما فلسطين فتسكنهم الى يوم الدين
ابو عرب
من هو ابو عرب
انه احد الذين نتمنى لو كنا مثله او معه او نشابه اصراره واقدامه وتضحياته وفكره
الانسان الذي قاتل عدوه دون كلل او تلكؤ
العربي الذي امن بالامل والعمل واهمية الافعال حتى ان كانت صغيرة
الذي لم يمنعه القهر والقوة والسجان من الكتابة والشعر والفكر
صمد في وجه الالة العسكرية وجبروتها 13 عاما وخرج على اثر عملية التبادل (عملية النورس)
1979
كان اسره خطوة لمتابعة طريق النضال
استطاع هو ورفاقه الوقوف بصلابة في طريق فرض واقع جديد ومقارعة الغاصب مرة بالاضراب واخرى بالسخرية واحيانا بالتخلي عن الحقوق البسيطة
ومرات بالمناكفة والصلابة والقوة والعنف مرات اخرى
كل هذا ادى الى نشوء مصطلح ادارة السجون
وتغيير في الحقوق والمكتسبات ما كان لتتاتى لولا حكمة وجلد وصبر ما وراء القضبان
ولسان حالهم
وما نيل
المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
انتزعوا جزا مهما من كرامة الاسرى واثبتوا للعالم وسجانيهم انهم ايضا يملكون بعض مفاتيح اللعبة ولديهم كلمة فصل
الاحساس الذي جعلهم يحسون بالرضا عن انفسهم ولو مرحليا
السجن عقوبة قاسية اذا كنت مجرما او مخطئا او مفسدا
لكنه في حالات المقاومة وفداءالاوطان يصبح سفرا ممتدا من الخلود والسؤدد والرفعة
وسجلا ناصع البياض وفخارا يقترب من درجات الشهادة وانت تذود عن حياض الوطن
قدم وائل النابلسي
قبة السماء لإبراهيم سلامة على لسان زهرة الكوسى
لعل من الواجب أن نذكر ونتذكر اولئك الذين مهدوا لنا الطريق الشائك مضحين بأرواحهم وأجسادهم، من أجل فلسطين.
تقول زهرة في صفحة ٥٨
أرى أن للفدائي سحرا مثل سحر الهوى…يمر على الحقل فتنحني السنابل، ونحن هنا نحني رؤوسنا احتراما وتقديرا وإجلالا لهذه الرموز والأسماء التي عبّدت بأجسادها ونضالها طريقا لازال طويل، لذلك سأقوم بذكر هؤلاء المناضلين تخليدا لذكراهم.
الأسماء كما ورد ترتيبها في الكتاب وتأثير تلك التفاحة الفاسدة
رجا سلامة الوالد والوالدة خضرة
قاسم سلامة
محمد غنايم
سليم سمارة
زعل الماضي
المعلمان خالد الجراح، عبدالمجيد حنونة
رشاد أبو شاور
سعود النجمي
حفظي قاسم
عدلي قاسم
عبداللطيف شرورو
خالد الأمين الشهيد الأول
أبو علي دعبول
سمير درويش الأسير الأول
صائب سويد
أبو جابر
كامل ناصر
إبراهيم نشوان
محمد حسين عبدالغني
يوسف رجب الرضيع
عبدالقادر أبو الفحم
عبدالله العجرمي
تيسير قبعة
أسعد عبدالرحمن
علي العواودة
فايز العبويني
راغب أبو راس
حسام بامية
يعقوب دواني
أبو علي شاهين
نصر الشخشير
نزيه قورة
وليم نصار
شوقي شحرور
حافظ أبو عباية
أحمد خليفة
حافظ قاسم
تحسين حلبي
خالد عبدالرحيم
فوزي الزعبي
عمر أبو راشد
عمر قاسم
أبو علي خنجر
جهاد ياسين
أحمد رشيد
زعل عيسى سلامة
صبحي البابا
محمد خليل إبراهيم
عبدالعزيز شاهين
يعقوب ديوانه
يوسف جرادات
محمد حمدان القاق
طلال ناجي
نبيل قبلاني
أبو محمد حافظ
إسماعيل دبج
خالد كوسا
إن رمزا لايسقي نخيل الفلاح ولا يمسك بشراع قارب الصياد ولا يعي كيف ضحى رفاقنا في المعتقلات
رمزا لا يمكن أن يحظى بثقة الشارع.
لذكراهم جميعا، من رحل ،ومن لايزال على قيد الأمل والحرية، كل المحبة والامتنان
قراءة الاستاذ حسن عبادي لقبة السماء
أما آن لهذا الليل أن ينجلي
حسن عبادي/حيفا
بدايةً دعوني أعترف بأنّي لم أسمع ببطل كتابنا قبل أن اقترحه الصديق رشاد أبو شاور أو صلاح أبو لاوي لنتناوله ضمن مبادرة “أسرى يكتبون”، وفي زيارتي الأخيرة لسجن ريمون الصحراوي سألني صديق عمّا يتناوله كتاب “قبّة السماء” فأخبرته أنّها حكاية الأسير – إبراهيم سلامة (أبو عرب) – فسألني: ومن يكون؟ صُعِقت من سؤاله، وهو الأسير الكاتب المثقّف الذي يتابع أمور الحركة الأسيرة منذ سنين عديدة، فكيف له أن يجهل أبو عرب وسيرته؟ فجاءني ما كتبه الأسير العزيز حسام شاهين في كتابه “رسائل إلى قمر”: “أحرجتني كثيرًا عندما سألتني سؤالًا عجزت عن الإجابة عليه بوضوح وشجاعة. أخبرتني أنها ذات مرّة اجتمعت مع أحد وفود شبيبة فتح التي زارت النرويج، وأثناء حديثها إليهم سألتهم عنّي، وصُدمَت لدى اكتشافها بعدم معرفتهم مَن أكون، فقالت لهم بغضب: كيف لا تعرفون واحدا من أهم الأشخاص الذين ساهموا في بناء وتأسيس العلاقة بين شبيبتكم والشبيبة الأوروبية على وجه العموم؟ وحاليا يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي لأنّه تحمّل مسؤوليته الوطنيّة وهو على رأس عمله، ومن الغريب أن يؤدي اعتقاله إلى نسيانه بدلا من حماية ذكراه وأنتم حركة تحرّر. يجب عليكم أن تدرسوا تاريخكم جيدا قبل المشاركة في هذه النشاطات”. جاءني ما قاله الغزالي: “لا تتألّم إذ أنكر أحدهم فضلك عليه، فأضواء الشوارع تُنسى في النهار!”. هذا هو حال شرقنا.
والله صعبة يا أبو عرب.
يتناول كتاب “قبة السماء” (الصادر عن مؤسّسة سوريانا للإنتاج الإعلامي–دمشق) سيرة المناضل الفلسطيني إبراهيم سلامة، كتبتها رفيقة دربه الأديبة زهرة عبد الجليل الكوسى ووثّقت معاناته في المعتقلات الصهيونيّة إثر مشاركته في عمليّات فدائيّة مقاوِمة للاحتلال الإسرائيلي، وكتبت في البدء: “وإذا كانت “الشهادة” هي الترجمة الإبداعيّة الأبرز لحب الوطن فالاعتقال يقترب كثيرًا منها أو يتلازم معها، ولإن الفعل أقوى الدلائل لتجسيد الفكرة”.
لن أتناول التجنيس الأدبي للكتاب؛ هل هو رواية أم سرد نصّي مفتوح؟ هل هو سيرنصيّة أم سيروائيّة أم سيرة غيريّة؟ هل هو تقرير صحافيّ/ روائيّ أم كتاب وصفيّ للحركة الأسيرة عبر عيون أبو عرب وريشة زهرة؟ ولكنّه، على كلّ الأحوال، رصد بانوراميّ يصوّر ويُمثّل حالة الكثير من أسرانا التي همّشها “التاريخ” محاولًا تغييبها لتبقى في طيّ النسيان.
يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث داخل السجن، فهو إذا صح التعبير “رواية السيرة الذاتية”.
كتب أدب السجون أيضًا من رصدوا تجارب سجناء عرفوهم.
“تلك العتمة الباهرة” كتبها طاهر بن جلون، تروي مأساة السجين عزيز بنبين الذي قضى عامين في السجون المغربية، ثم نُقل إلى جحيم تزممارت ليقضي فيه 18 عاما آخر. اعتمدت الرواية على تصريحات عزيز في تصويرها للأحداث والوقائع، ولم تكن عنها فقط، بل كانت تدور أيضًا حول ثلاثٍ وعشرينَ سجينًا كانوا معه في المعتقل، وسرد تسلسل الأحداث من لحظة الدخول إلى السجن وحتى لحظة الخروج منه.
وها هي الكاتبة زهرة تواكب محطّات أبو عرب منذ التهجير من قريته “أم الزينات” الكرمليّة إبان النكبة وما تبعه، الحياة في المنافي والشتات، فجاء تحت عنوان “القهر”: “يدخل الفلسطيني غربته، يغطي مساحة حلمه خيامًا، تتبعثر في البلدان، ويشكل امتحانًا لنفسه ويرفض الآخرون هذا الامتحان، وتتداخل في أعماقه عاداته مع عادات الشعوب الأخرى، هو الذي تحوّل من مجسد لانتماء على حيّز إلى لاجئ في أوطان عدّة، يجرفه الإقطاع عاملًا وأجيرًا بعد أن كان مالكًا لأرض هو سيّدها… ورحلة القهر تمتد، لم يخطر في باله يوم حمل همّه ورحل أنّها ستطول إلى هذا الحد.” (ص. 23)، إلى العمل الفدائي وعبور النهر، الاعتقال وما مرّ به في سجون الاحتلال وما مورِس ضدّه ورفاقه ومعاركهم اليوميّة وإضراباتهم لانتزاع حقوقهم الأساسيّة، جبروت السجّان الغاشم وقسوته وأساليب التعذيب النفسيّة والجسديّة، حتى التحرّر من براثين العدو وما تبعه من خيبة أمل وتبدّد الوهم الأوسلويّ.
تلاحق إبراهيم النكبة أينما حل؛ يتذكّر أنّ له أرضًا وكان كلّ محصولها لهم، ليجد نفسه دون أرض ولا مال، رغيف الخبز يصبح حلمًا لطفل في حضن أمّه ليغفو جائعًا ليعيش مأساته التي بدأت لحظة نصب أعمدة الخيمة لينام في العراء، وتجعله يتساءل بحرقة “هل زرعنا وحصدنا أو زُرِعنا وحصدونا؟”.
كانت زهرة صادقة في توثيقها، وبعض “أبطالها” أعرفهم حقّ المعرفة، أصدقاء لي، أمثال علي رافع، رشاد أبو شاور، وأسعد عبد الرحمن وغيرهم.
ما أشبه اليوم بالأمس؛ تناولت قضيّة العمالة والتعاون مع العدو واغتيال العميل “صلاح الزعبي”، والاختراق والإسقاط الأمني داخل السجن وخارجه،
الأسيرة “بدرية النجدي” تنجب طفلها داخل المعتقل،
الإهمال الطبّي داخل السجون؛ المعتقل يعاني أمراض العيون، القلب، الأعصاب، وغيرها،
الإضرابات عن الطعام لتحقيق مكاسب للحركة الأسيرة وتنظيمها داخل السجون،
معاناة الأهل ودرب الآلام وعذابات الزيارات،
الإغراءات “الأمنيّة” المسكوت عنها مثل التسهيل الجنسي عن طريق إحضار مومِس أو تسهيل “اللواط” وغيرها.
وتناولها وسائل التعذيب الساديّة (ومنها: تسجيل أصوات أثناء حفلة التعذيب ويتم توزيعها وإعادتها خلف الزنازين، “الشبح”، التعذيب الجسدي والمس بالأعضاء التناسلية، إحضار شقيقة المعتقل أو أمه وتعريتها أمام شقيقها أو ابنها للضغط عليه أو التهديد باغتصابها أمام أعينه، محاولة قتل الأسير نفسيًا وروحيًا منذ اعتقاله حتّى تحرّره، العزل الانفرادي وغيرها.
أسرانا يستحقّون الحياة رغم محاولة السجّان المستميتة لسحقها، و”يمامة” أبو عرب (ص. 68) أخذتني لصورة وصلتني من خلف القضبان لصديق يربّي عصفورًا ويحرص عليه وأخبرني أنّ السجّان سيحاكمه إذا اكتشفه، وكذلك إلى “آهات من سجن الرملة”؛ لتلك المجموعة “قصصيّة” التي خطّها الراحل زهير لبادة وقصّة “الوردة الحمراء”: يصوّر تهريب شتلة نبات زينة منزليّة إلى داخل السجن وزراعتها في وعاء صغير حتى تمّ مصادرتها وإعدامها. في السجن يشتاق لأشيائه الصغيرة، وبعضهم يشتاق إلى الإسفلت الذي لم يدسه منذ عشرين عامًا! ومنهم إلى زهر اللوز وآخر للخُضرة فيزرع قطعة جزرة في كأس ماء ليتأمل براعمها الخضراء.
نجحت الكاتبة بتصوير وسائل التواصل بين الأسرى داخل الزنازين حين وصفت بريدهم المبتكر بواسطة الخيط الطويل الذي يحمل “بصّة نار” (ص. 93)، وحين قرأتها جاءني ما أخبرني به صديق أسير عن طريقة إيصال رسالة/ مشاركة زميل له في ندوة عقدناها ضمن مبادرة “أسرى يكتبون”؛ كتب مداخلته وأنزلها عبر خيط طويل من الطابق العلوي إلى السفلي لتخترق القضبان.
وقعت الكاتبة في مطبّ التنظير الشعاراتي الفلسفيّ، أحيانًا، بدت للوهلة الأولى مُغَوغلة، وكانت بغنى عنه، (ص. 35)، (ص. 112)، وكذلك الحال شهادة “إسماعيل دبج” (ص. 130).
وُفّقت الكاتبة بتوظيف الأمثال الشعبيّة: “لماذا لا تبوس اليد وتدعي عليها بالكسر”، “ألف عين تبكي ولا عيني”، “الحجر اللي ما بعجبك بفجّك”، “مثل خروف العيد”، “راح تمشي عالعجين وما تلخبطه”.
لغة الكاتبة انسيابيّة شاعريّة بعيدة عن المحسّنات اللفظيّة، وعلى سبيل المثال (ص. 127): “ومثل تفتّح حلمتين ليافعة كان تفتح العيون والعقول على المعرفة، نلوب في الليل.. نقرأ من ذاكرة متعلم، ونشعل عيوننا قناديل تحدق في الظلام تسابق سمعنا لالتقاط محاضرة.. وتسقط فراخ الدوري من أعشاشها عن النخلة التي لم تجاور أحدًا.. تتحوّل الفراخ بين أيديهم إلى أطفال يربّونها.. تكبر.. تخرج من الزنزانة.. تغيب في النهار وتعود في المساء لتنام في الزنزانة”. وكذلك الأمر: “أحب الحياة، وتجري أنهار فرحي تصب في قلبها.. يتسامى النبع يحمل أبخرة العشق، يمر على الحقول، ينقشع الضباب.. أتوارى خلف نسمة.. ربّما كانت الحياة أجمل ممّا رسمت..” (ص. 129).
راق لي وصف أبو عرب لسلاح الابتسامة حين قال: “وأنا ما زلت معلقًا بين روحي وابتسامتي، حتى الابتسامة تكون سلاحًا وغيظًا” (ص. 54) وجاءني ما كتبته في حينه بعد مغادرتي سجن ريمون الصحراوي: “في طريق العودة تصفّحت الأخبار حول ما يجري في القدس، فوجئتُ بصور المعتقلات والمعتقلين، محاطين بجنود الاحتلال، كلّ وابتسامته، جاءتني ضحكة كميل وابتسامات كلّ من التقيته من الأسرى، ابتسامة قاتلة للمحتلّ وتبثّ حريّة قادمة لا محالة. بدأ الشعب بانتفاضة الابتسامة حتى النصر!”.
ويبقى السؤال الوجودي عالقًا في ذهن المناضل: أيّهما أصعب: الشهادة أو الأسر؟ هل فعلًا الأسر عذاب أكبر؟
وأخيرًا؛ نعم؛ رحل أبو عرب مع الراحلين. لكن لم يغب مع الغائبين.. ترك تاريخه.. ترك زهده في الحياة.. ترك قنديله مضاء على درب فلسطين.
كم أنت محظوظًا يا أبو عرب، لم يحالف الحظ الكثير من أسرانا حيث لم يحظوا بنشر سيرتهم، وحبّذا، لو قامت مؤسساتنا بنشر ذاك التراث الغني، كما فعلت زهرة في هذا الكتاب، ليكون عبرة لمن اعتبر، وخاصة أن حكاية غالبيّة أسرانا مُهمّشَة ومُغيّبَة، فلكلّ أسير حكاية، وهناك ضرورة ملحّة لنشرها وأرشفتها لبناء السيرة التاريخية الصحيحة لتلك التجربة لكونِها وثيقةً تأريخيّة متكاملة.
***مشاركتي في ندوة “يوم المرأة العالمي” يوم الثلاثاء 08.03.2022 عبر الزووم ضمن فعاليّات
“أكثر من قراءة” في عمان